Ana içeriğe atla

كيف كانت لغة إنسان نياندرتال؟ وهل أصبحت جزءا من لغتنا؟

نعلم أن أسلافنا تواصلوا مع أبناء عمومتنا من النياندرتال، لكن هل ترك تواصلهم هذا بصمةً على لغاتنا المعاصرة؟

إذا وجدت نفسك تتلعثم في نطق الفرنسية أثناء تواجدك في فرنسا للسياحة، ففكِّر في أول سلالة من الإنسان الحديث. فأثناء سفر هؤلاء البشر من أفريقيا إلى آسيا وأوروبا منذ حوالي ٧٠ ألف سنة، من المحتمل أنهم قابلوا لأول مرة أبناء عمومتهم على السلَّم التطوري المعروفين باسم النياندرتال.

ماذا قالوا؟ في الماضي كان الكثير من الناس يجيبون عن هذا السؤال، قائلين: «لَم يقولوا الكثير»؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن النياندرتال ليس لديهم كلام معقَّد. ومع ذلك تشير الأدلة الحديثة إلى أنهم على الأرجح كان لديهم لغات قريبة الشبه من لغاتنا. ومن المدهش أنه ربما يكون لدينا الآن الوسيلة التي تمكِّننا من أن نلحظ تلك الألفاظ في الكلمات التي نتحدثها اليوم، ولهذا الأمر تبعات هائلة على فهمنا لتطور اللغة.

جاء اعتقاد أن إنسان نياندرتال كان يتحدث مثلنا من كشوف أثرية كثيرة؛ فقد أظهرت البقايا الأثرية أنه كان لديه نمط معيشي معقَّد يشتمل على سمات بشرية مثل الاهتمام بالعَجَزة والمرضى، فضلًا عن وجود أدوات متطورة، من بينها أدوات عظمية ودهانات لطلاء الجسد، وهذا يُعد سلوكًا معقدًا لا يمكن أن يصبح ممكنًا إلا إذا كان لديه لغة. علاوةً على ذلك، فإننا لدينا المزيد من الأدلة التشريحية المباشرة؛ إذ تشير آثار المسارات العصبية في عظام جمجمة إنسان نياندرتال إلى أنه كان يستطيع على سبيل المثال التحكمَ في النطق، وهذا تكيُّف لغوي ضروري تفتقر إليه القردة العليا. ويبدو أيضًا أن إنسان نياندرتال كان لديه أنواع مختلفة من الجينات المرتبطة بمعالجة اللغة.

ولذلك يبدو من المعقول افتراض أن كلامه كان قريب الشبه من كلامنا مع وجود اختلافات ترجع إلى تشريح جهازه الصوتي، أو تركيبة عقله، أو ببساطةٍ تطوره الثقافي خلال الوقت الذي ابتعد فيه عن الإنسان الحديث. أما السؤال المهم فهو: هل يمكننا أن نخمِّن طبيعة تلك اللغة؟

وعلى الرغم من أن هذا الأمر يبدو مستحيلًا، فإن هناك طريقة لتحقيق ذلك. فمن المنطقي أنه عند تواصل مجموعتين تتحدث كلٌّ منهما لغة مختلفة، فإنهما تتبادلان أجزاء من اللغة مثل الكلمات والقواعد النحوية. ويمكن للغويين اكتشاف آثار تلك التفاعلات حتى بعد مرور آلاف الأعوام. نحن نعلم أن الإنسان الحديث بمجرد أن ترك أفريقيا عاش بجوار إنسان نياندرتال، وأنه تزاوج معه في بعض الأحيان. وربما تشاركا الثقافات، وهناك أدلة على أن إنسان نياندرتال أعطى أسلافنا فكرة صنع أدوات معينة، وهكذا يبدو من المحتمل أنهما تحادثا. ومهمتنا إذن هي معرفة ما إذا كان هناك اختلاف بين لغات السكان الذين عاشوا في أفريقيا غالبًا ولم يتواصلوا مطلقًا مع إنسان نياندرتال، وبين لغات أولئك الذين قابلوه.

تأثيرات متلاشية

ستكون الآثار باهتة للغاية، وستظهر على الأرجح في صورة مجموعة من السمات، تمامًا مثلما أن الاختلافات بين المجتمعات البشرية عادةً ما تنشأ عن الاختلافات في مئات الجينات، وليس في جين واحد أو جينين فقط. ومما يزيد الأمور صعوبة أن تلك الحوارات حدثت قبل أن يحلُم بالتحري عنها معظم المؤرخين اللغويين بآلاف السنين، وهذا يعني أن هذه الفترة الزمنية الطويلة من الممكن أن تكون قد محت هذا الأثر. الأمر لا يشبه البحث عن إبرة في كومة قش بقدر ما يشبه البحث عن جزء صغير من قشة في صومعة تعج بالقش.

بالتأكيد لسنا مهيئين لعمل قاموس للغة إنسان نياندرتال، لكننا بدأنا في التحري حول قدرة اللغويات المعاصرة من حيث المبدأ على إيجاد أي آثار لكلام أقربائنا في اللغات المعاصرة. وبعد ذلك يمكننا تركيز بحثنا على سمات أكثر تحديدًا.

كانت نقطة انطلاقنا هي «الأطلس العالمي للتراكيب اللغوية»، وهو قاعدة بيانات توثِّق مئات اللغات. استخدمنا طريقة إحصائية لتقسيم تلك اللغات إلى مجموعتين، بحيث تكون اللغات الموجودة في مجموعة واحدة بعضها أكثر شبهًا ببعض من اللغات الموجودة في المجموعة الأخرى. وبعد ذلك تحرينا حول وجود اختلاف جغرافي بين المجموعتين، لا سيما في المجموعة التي تضم في أغلبها لغات أفريقية كما هو متوقع من نظريتنا. كانت النتائج مختلطة لكن مقارنة التراكيب العامة، بما فيها أمور مثل ترتيب الكلمات والتذكير والتأنيث، أظهرت فارقًا بين اللغات الأفريقية وغير الأفريقية، أكبر مما أظهره مجرد الاكتفاء بمقارنة المفردات. وهذا يشير إلى أنه من المحتمل أن يكون تأثير إنسان نياندرتال ما يزال باقيًا في القواعد النحوية للغات غير الأفريقية.

بالمثل، طبقنا أسلوبًا منفصلًا يستخدم البيانات اللغوية للتنبؤ بالطريقة التي هاجر بها السكان واختلطوا للوصول إلى التنوع اللغوي المعاصر. ودعَّم أنسب نموذج فكرةَ وجود مجموعتين أساسيتين من السكان المؤسسين، مجموعة في أفريقيا، ومجموعة أخرى تأثرت بتأثير خارجي من إنسان نياندرتال.

وأخيرًا، التجأنا إلى الطرق المستخدمة في الأساس لدراسة الاختلاف بين الأنواع، وكان الغرض من ذلك هو تحديد أشجار عائلات اللغات المختلفة اعتمادًا على سماتها المتشابهة. تعطي تلك الأشجار تنبؤات بوقت ظهور تلك السمات للمرة الأولى، وبعد ذلك يمكننا البحث عن خصائص تغيرت ببطء، وما تزال قادرة على أن تعكس تفاعلات حدثت منذ آلاف السنوات. وبعد ذلك يمكننا معرفة ما إذا كان هناك أنماط مختلفة في عائلات اللغات الأفريقية وعائلات اللغات غير الأفريقية، وفي حالة وجود اختلافات ربما يكون هذا دليلًا على التواصل مع إنسان نياندرتال.

من المغري جدًّا القفزُ إلى نتائج أولية، فعلى سبيل المثال اتضح أن طريقة تعبير اللغات المختلفة عن الملكية تُعد إحدى النتائج المحتملة. ففي اللغات الأفريقية يعبَّر عن الملكية بلاحقة تعتمد على تصنيف الكلمة، فمثلًا نجد أن الكلمات المتعلقة بالبشر بها قاعدة تختلف عن تلك الكلمات المتعلقة بالأشياء غير العاقلة. أما اللغات الأوراسية فليس بها هذا الفارق، فكلمة «كلبي» تتبع القاعدة نفسها المتبعة في كلمة «ابني» أو «كمبيوتري»، وربما السبب في ذلك يعود إلى أن لغة إنسان نياندرتال ليس بها هذا الفارق أيضًا. ومع ذلك يمكن بسهولة أن تكون هذه النتيجة وليدة الصدفة.

لكن بدلًا من أن نتوقع سمة واحدة، فإننا توقعنا أن يكون هناك «تأثير» أعم على اللغات التي تفاعل أصحابها مع إنسان نياندرتال. ومن أجل هذا درَّبنا آلة تتعلم الخوارزمية لتحديد مدى قدرة مجموعة سمات مختلفة على توقُّع ما إذا كانت اللغة آتية من أفريقيا أو من أي مكان آخر. ويمكن تحديد اللغات الأفريقية واللغات غير الأفريقية بدقة تصل إلى ٩٠ في المائة، ولكن فقط باستخدام عدد كبير من السمات. وهذا يجعل من الصعوبة بمكان تحديد سبب هذا الاختلاف، لكن من الوارد أن يكون شيء من قبيل المحادثات مع إنسان نياندرتال هو ما أدى إلى تطور اللغات الأوروبية والآسيوية في اتجاه مختلف عن اللغات الموجودة في أفريقيا.

سباق مع الزمن

قبل الاحتفاء بهذه النتائج لا بد من التأكد من أن الإحصائيات تخلو من أي متغيرات دخيلة مشوِّشة؛ فعلى سبيل المثال، نحن نفتقر إلى معلومات عن كثير من لغات العالم، لا سيما تلك اللغات التي لا يتحدثها سوى القلة القليلة. ولأن اختيار البيانات ليس عشوائيًّا، فإن الأنماط التي تظهر يمكن أن تتأثر بالتحيز في الاختيار.

بيد أن النقطة المهمة هي أن تلك الطرق توفر وسيلة لاختبار تلك الأفكار، كما أننا لن نكون بحاجة أيضًا إلى آلة زمن للحصول على البيانات الإضافية التي نحتاج إليها، فالأسرار قد تكون مخفية في لغات غير موثقة. وحاليًّا يتم إنشاء العديد من قواعد البيانات اللغوية واسعة النطاق، ومع ذلك يجب أن نعمل سريعًا؛ لأن اللغات تندثر بمعدل مؤسف. وإذا ساعد هذا الأمر في تكبير الأصداء الخافتة لأصوات إنسان نياندرتال، فعندها سنكون أكثر قدرةً على تسليط الضوء على سماتٍ أكثر تحديدًا في كلامه.

يمكن لهذا الأمر أن يكون له انعكاسات مهمة. فوجهة النظر التقليدية التي يتزعمها نعوم تشومسكي مع آخرين تقول إن الاختلاف الذي نراه في لغات العالم تحكمه تحيزاتنا الفطرية. أما إذا كانت تلك الاختلافات ناتجةً — ولو جزئيًّا — على الأقل من مسارين مختلفين أحدهما يعكس تحيزات إنسان نياندرتال وتحيزاتنا أيضًا، فمن الممكن أن نكون قادرين على إيجاد رؤًى كاشفة جديدة تتعلق بطريقة تفاعل الجينات والثقافات لتشكيل الكلمات التي نتحدثها.

وعلى الرغم من أن هذا الاحتمال قد ينطوي على شيء من المغامرة، فإننا نجد أنه منذ ١٠ سنوات كانت دراسة جينوم إنسان نياندرتال هي أيضًا حلمًا بعيدًا؛ وقد حدثت بالتأكيد أمور أغرب في مجال العلوم.

أصوات إنسان نياندرتال بعد مماته

كتب ديفيد روبسون يقول:

تعلَّمَتِ المغنية إليزا دوليتل بالتجربة العملية أن جودة الكلام تعتمد كليةً على الحروف المتحركة، فنحن لا نستطيع أن نطلب من إنسان نياندرتال أن يردد أغنية: «المطر في إسبانيا …» على غرار الأداء الشهير لهذه الأغنية من قِبل إليزا دوليتل في النسخة الموسيقية لمسرحية «سيدتي الجميلة»، لكننا اقتربنا من سماع همسات لغته المفقودة. ففي عام ٢٠١٢ اشتركت آنا بارني من جامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، مع زملائها في إعادة تشكيل المجرى الصوتي لإنسان نياندرتال، ثم استخدموا الكمبيوتر لمحاكاة الأصوات المتحركة التي من الممكن أن يكون قد أصدرها.

وركَّز تحليل الفريق على ثلاثة أحرف متحركة «كمية» هي: الصوت /a/ كما في كلمة hat، والصوت /i/ كما في كلمة free والصوت /u/ كما في كلمة boot. ومعظم الأحرف المتحركة الأخرى تنحصر بين هذه الأصوات الرئيسية الثلاثة، ومع اجتماع هذه الأحرف معًا تمنحنا المجموعات المختلفة منها نطاقًا واسعًا من الألفاظ.

رجَّحت التحليلات السابقة أنه على غرار قردة الشمبانزي لم يكن إنسان نياندرتال ليستطيع تغيير حجم الفراغ الهوائي في مؤخرة الحلق لنطق كل صوت من الأصوات الثلاثة على نحو متمايز. يرجع هذا الأمر جزئيًّا إلى أنه كان يُعتقد وجود العظمة الضرورية للنطق — ويُطلق عليها العظم اللامي — في مكان عالٍ للغاية في التجويف الصوتي؛ ونتيجة لذلك كانت الأصوات التي أمكنه التلفُّظ بها محدودةً.

وعلى الرغم من ذلك فقد أظهرت بارني وزملاؤها أن موضع العظم اللامي لدى إنسان نياندرتال ربما كان قريبًا من موقعه لدينا. وعند إضافة هذه المعلومة إلى محاولات المحاكاة الصوتية لأصوات إنسان نياندرتال رجحتْ أنه كان بإمكانه نطق الصوتين /i/ و/u/ إلى حد كبير بالطريقة التي ننطقهما بها، حتى وإن لم يستطع البروفيسور هيجينز في «سيدتي الجميلة» على الإطلاق تعليمه نطق الصوت /a/ في كلمة hat. وهذا العمل يُعد إضافة جديدة إلى كمٍّ متزايد من الأبحاث التي تدعم فكرة فصاحة إنسان نياندرتال المدهشة في الكلام.

07 Ara, 2015 12:31:00 PM
1