تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
كيف محا التاريخ سيرة البحار الأسود الذي "فتح" المحيط الهادي؟

أصبح مركز ثقل العالم يتحرك باستمرار نحو المحيط الهادي، لذلك من الضروري أن نفهم كيف بدأ كل شيء. إذ لم يبدأ مع رحلات كابتن كوك الأسطورية، كما يُفترض غالبا، ولكن قبل ذلك بقرون مع شخصية تم محوها بالكامل من سجل التاريخ.

 

كتب أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا أندريس ريزنديز قصة غير مروية عن "لوب مارتن" الذي كان أول ملاح أبحر من الأميركتين إلى آسيا ثم عاد، وأبحر الملاح الأفرو-برتغالي من نافيداد على الساحل الغربي للمكسيك عام 1564 إلى الفلبين، ثم عاد إلى نافيداد عام 1565 عبر المحيط الهادي.

 

وفي مقاله بمجلة "تايم" (Time) الأميركية، اعتبر ريزنديز أن الملاح لوب مارتن فتح (حقا) المحيط الهادي وأنجز ما فعله كولومبوس في المحيط الأطلسي، وأضاف أنه "كان ملاحا استثنائيا، تقريبا تجاهلته سجلات الاستكشاف، وهو الذي حوّل المحيط الهادي بين عامي 1564-1565 إلى فضاء حيوي للاتصال والتبادل، ونسج جميع القارات معا ودشن عالمنا الحالي".

 

وأندريس ريزنديز، وهو حاليا زميل في مؤسسة كارنيغي وبحار متعطش، ألف كتاب "العبودية الأخرى- القصة غير المروية للاستعباد الهندي في أميركا" (The Other Slavery) الذي وصل إلى نهائيات المنافسة على جائزة الكتاب القومي، وأحدث كتبه هو "قهر المحيط الهادي- ملاح مجهول والرحلة العظيمة الأخيرة وآخر رحلات عصر الاستكشاف" نُشر سبتمبر/أيلول الماضي.

 

 

كولومبوس ومارتن

يقول ريزنديز تعرفنا في المدرسة الابتدائية وما بعدها على كريستوفر كولومبوس ورحلته الرائدة عام 1492. وبعد ذلك بنحو عقدين من الزمن، عثر المستكشفون الأوروبيون على المحيط الهادي الذي يبلغ حجمه ضعف مساحة المحيط الأطلسي تقريبا وأكثر صعوبة بكثير للملاحة.

 

ومن المعروف أن الملاحين البولينيزيين (سكان مجموعة كبيرة من الجزر المبعثرة في المحيط الهادي شرق أستراليا وغرب أميركا اللاتينية) أول من عبر المحيط الهادي من الغرب إلى الشرق عن طريق التنقل بين الجزر من ساحل الصين إلى الأميركتين.

 

وكان البرتغالي فرديناند ماجلان أول أوروبي يذهب في الاتجاه العكسي عن طريق الإبحار من العالم الجديد إلى آسيا خلال طوافه الشهير بين أعوام 1519-1522.

 

لكن قصة مارتن الذي تجاهلته سجلات الاستكشافات لم يتعرف عليها تلاميذ المدارس بعد.

 

 

الاستعباد والحياة القاسية

أُخذ أسلاف مارتن عبيدا في جنوب البرتغال. ورغم أنه كان رجلا حرا، فإن ظروفه المحفوفة بالمخاطر أجبرته على ولوج حياة البحر القاسية، إذ أصبح يحمل أكياس الطحين على متن السفن أو يتسلق خطوط الجرذان على قمم الصواري.

 

وفي عصر كانت الغالبية العظمى من ضباط البحرية من البيض الأوروبيون، ارتقى مارتن في الرتب ليصبح ربانا مرخصا، أعلى مهنة يمكن أن يطمح إليها رجل أسود.

 

وفي الواقع، كانت مهارته في الإبحار غير عادية لدرجة أنه كان كذلك ممن تم تجنيدهم من أجل مشروع سري بلا نفقات وضعه التاج الإسباني لفتح التجارة بين مستعمرات إسبانيا الأميركية و"المشرق" الأسطوري كما كان يشار إليه في ذلك زمن.

 

قصة مارتن لافتة للنظر بشكل خاص لأن طريق مروره الثوري لم يكن له علاقة بالشجاعة -على الرغم من أهميتها- بل كان بسبب إتقانه تقنيات الملاحة في عصره.

 

 

 

فن التنقل والسفر

بحلول منتصف القرن 16، كان "فن التنقل -كما كان يُطلق عليه- أصبح أقل فنا وأكثر علما. فكان على أي شخص يرغب في أن يصبح ملاحا أن يأخذ الدورات واجتياز الامتحانات وإثبات الكفاءة في الرياضيات وعلم الفلك ورسم الخرائط".

 

اجتاز مارتن كل الاختبارات وأظهر موهبة نادرة. ويمكن للملاحين المهرة في تلك الحقبة تحديد خط العرض (المسافة بين الشمال والجنوب) في منتصف المحيط بقياس ارتفاع الشمس بالنسبة للأفق، باستخدام "جداول الانحراف" وأداء عدد قليل من العمليات الحسابية. وكان تحديد خط الطول (مسافة شرق – غرب) أصعب بكثير، ولن تكون ممكنة بالكامل حتى القرن 18.

 

ومع ذلك، فإن الملاحين الأوائل في عصر الاستكشافات مثل مارتن كانوا قادرين على تقريب خط الطول عبر المراقبة الدقيقة للمحيط وقياس الفرق بين الشمال الحقيقي كما يتضح من نجم الشمال والشمال المغناطيسي كما هو مبين بالبوصلة. هذه المعرفة المتخصصة جعلت مارتن واحدًا من أكثر الشخصيات إنجازا والملاحين الأكثر قيمة في وقته في أي مكان في العالم.

 

يقول الكاتب بوصفه مؤرخا "أذهلني أن المتخصصين في التاريخ المبكر للمحيط الهادي وحدهم يعرفون بوجود مارتن على الإطلاق"، وهذا من المحتمل أن يكون سببه الظروف غير العادية لرحلته، فقد نظم التاج الإسباني بعثة بين عامي 1564-1565 في سرية تامة.

 

وبدلا من المغادرة من أكابولكو، وهو أكثر الموانئ شهرة على الساحل الغربي للأميركتين في ذلك الوقت، انطلق الأسطول المكوّن من 4 سفن من نافيداد، وهو ميناء متهدم يبعد كثيرا من أكابولكو باتجاه الشمال.

 

علاوة على ذلك، بالكاد بعد 10 أيام من مغادرة الأسطول، فإن أصغر السفن والأقل تجهيزا بين الأربع وهي التي كانت بقيادة مارتن، انفصلت عن السفن الأخرى. واشتبه قائد الحملة وغيره من قادة الرحلة الاستكشافية، الذين ظلوا في السفن الثلاث الكبرى، على الفور في مارتن، واتهموا الرجل الأسود "بتعمد الغياب عندما كان البحر هادئا وكان الطقس جيدًا"، على الرغم من حدوث عاصفة في وقت الفراق.

وواصل مارتن مهمته على قارب معدّل -غير مدرك أن ولاءه قد تم التشكيك فيه- ووصل هو ورفاقه إلى الفلبين، وقاموا بإصلاحات لقواربهم وتداولوا مع سكان تلك الجزر لمدة شهر.

 

وبعد البحث عن السفن الأخرى من أسطولهم، اتخذوا أخيرا القرار المصيري بالعودة عبر المحيط الهادي العظيم، وهي مهمة لم يتم إنجازها أبدا قبل.

 

في هذا المقطع الملحمي، كان على مارتن ورفاقه محاربة طاعون الفئران التي قضمت براميل الماء وانسكبت محتوياتها. كما أُجبروا على ترقيع الأشرعة كل مرة قطعة من الملابس والبطانيات، ونجوا من ضربات كادت تحطم السفينة.

 

 

 

الخديعة

وعندما وصلوا أخيرا إلى نافيداد في التاسع من أغسطس/آب 1565 عراة تقريبا، وهم يحملون بضائع آسيوية، تم الترحيب والاحتفال بهم كأبطال. لكن لحظة الانتصار الجميلة هذه لم تستمر أكثر من شهرين، عندما أنجز قائد الأسطول بأكمله -وهو أكبر بـ14 مرة من السفينة التي أبحر بها مارتن ورفاقه- أيضا الرحلة المراوغة، بالعودة إلى أميركا مسترشدين بملاح رائع وراهب يدعى أندريس دي أوردانيتا.

وكان قائد الحملة قد بقي في الفلبين لتأسيس قاعدة إسبانية في آسيا، ولكن ممثليه على متن السفينة الرئيسية لم يضيعوا أي وقت في توجيه الاتهامات إلى مارتن بالهرب.

 

وصورت روايات المؤرخين اللاحقين -التي لوثها هذا الجدل- الملاح الأفريقي-البرتغالي قرصانا ونسبوا الفضل إلى أوردانيتا. ولذلك يمكننا القول إن كلا من مارتن وأوردانيتا قد نجحا بشكل مستقل، لكن واحدا منهما استمتع بهذا المجد بينما حُكم على الآخر سرا بالشنق مقابل خدماته الجليلة. وكان آخر فصول حياة مارتن الرائعة وهو الذي جعله يتفوق، عبر تمرد مذهل على قبطان السفينة التي كانت تنقله حتى وفاته، وربما قضى مارتن سنواته الأخيرة على الأرجح رئيسا لفرقة أوروبية صغيرة في ميكرونيزيا.

 

كان مارتن بلا منازع أول من "فتح" المحيط الهادي، مما سمح بذلك للنباتات والحيوانات والمنتجات والأفكار لبدء التدفق عبر محيط عظيم.

 

وبعد رحلته،  استمرت السفن الشراعية الإسبانية الكبيرة، على مدى قرنين ونصف القرن، تبحر كل عام عبر المحيط الهادي، تأخذ الفضة إلى آسيا وتعود بالحرير الصيني والخزف، والعبيد والتوابل من جنوب شرق آسيا من مناطق بعيدة حتى شبه القارة الهندية.

 

وبحلول نهاية القرن 18، بدأ التجار الأميركيون البناء على هذه الروابط السابقة عبر المحيط الهادي لإطلاق مشاريعهم الخاصة.

 

وبانهيار الإمبراطورية الإسبانية في الأميركتين أوائل القرن 19، حلت السفن الأميركية محل السفن الشراعية الإسبانية القديمة، بحسب مقال أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا لمجلة تايم الأميركية.

 

وبعد ذلك، ستستمر الولايات المتحدة للسيطرة على غوام (جزيرة تقع في غرب المحيط الهادي) والفلبين (المراكز الإسبانية المبكرة)، وفتح تجارة مباشرة مع اليابان والصين وإقامة شبكة واسعة من المصالح عبر المحيطات التي أعادت تشكيل العالم.

.

وأصبح مركز ثقل العالم يتحرك باستمرار نحو المحيط الهادي، لذلك من الضروري أن نفهم كيف بدأ كل شيء. فلم يبدأ مع رحلات كابتن كوك الأسطورية، كما يُفترض غالبا، ولكن قبل ذلك بقرون مع شخصية تم محوها بالكامل من سجل التاريخ.

 

 

 

 

المصدر : تايم+الجزيرة

 

21 أكتوبر, 2021 04:11:25 مساء
0