تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
«الزمن الحديدي».. السرد غير الواقعي في رواية الخيال العلمي

د. نادية هناوي * - 

لا يختلف السارد الذاتي في السرد غير الواقعي عن نظيره في السرد الواقعي ممارسا دوره مثله باحتراف ومهنية، لكن السمة الوحيدة التي بها يخالف غيره من السرد هو أنه ليس كائنا يمثل إنسانا حيا. وعلى الرغم من لاواقعية ما يمارسه هذا السارد الذاتي غير الآدمي، فإننا نتفاعل مع ما يسرده ونتآلف معه، مقتنعين بقدراته السردية غير المعقولة ومدركين أن ما يحكيه هو واقع مختلق سردياً، لكنه سرد يمكن له أن يكوِّن قناعة ما بواقعيته. ومن ثم لا نستغرب ونحن نقرأ قصة أو رواية فيها السارد بضمير الأنا جثة هامدة أو آلة أو قطعة نقود أو إنسان معتوه أو حيوان صغير أو كبير أو كائن مجهري أو شجرة أو دمية، وهلم جرا من الفواعل السردية التي تبدو في السرد غير الواقعي معتادة وهي تسرد قصتها تماما كأي إنسان عاقل له ذاكرة ويمتلك وعيا وأهلية.

وعادة ما نجد هذا السارد غير الواقعي ـ أيا كانت هيئته فردا أو مثنى أو جماعة ـ في السرديات المعاصرة، لا سيما قصص الخيال العلمي والقصص التي فيها يكون السارد إما ميتا أو مهلوسا أو كائنا فضائيا أو إنسانا منوما مغناطيسيا... الخ مما قد نجده أيضا في قصص الأطفال.

صناعة حبكة منظمة
وإذا كان جان إلبر قد أشار في أثناء دراسته إلى قصص واقعية ذات سيناريوهات غير طبيعية توظف الأحلام والعصاب والهلوسة في صناعة الأحداث، فإن هذه الصناعة تتجلى في ما يقوم به السارد الذاتي غير الواقعي من دور في صنع حبكة منظمة ومتماسكة تعكس جدارته في السرد، وانه لا يختلف عن السارد الذاتي الواقعي، ولا ضير إن نحن مزجنا أكثر من موضوع غير واقعي في موضوع واحد.

ولو كان الأمر في السرد غير الواقعي غير ذلك، لكان علينا أن نفترض للحدث غير الممكن قانونا آخر غير قانون الاحتمال الأرسطي.

ومن روايات الخيال العلمي «الزمن الحديدي» لعبد الهادي الفرطوسي، وفيها يسافر السارد الذاتي «جودة الساير» عبر الزمن إلى المستقبل وهناك يكتب مذكراته. وتوظف في الرواية قصتان: الأولى إطارية ميتاسردية والسارد الذاتي فيها واقعي يعيش الزمن الحاضر، والقصة الثانية مضمنة بوصفها المحكي السردي للقصة الإطارية، وفيها السارد الذاتي غير واقعي ومنوم مغناطيسيا على إثر تجربة تجميد قام بها الدكتور أنيس عام 1985، وأجراها داخل مختبر الرازي بمشاركة سلوى فتاح الممرضة الموهوبة بالتخاطر عن بعد، التي كانت تتخيل أشياء وتجري اتصالات بمخلوقات بعيدة وأناس من كواكب أخرى وحيوانات، وبسبب هذه الموهبة انضمت إلى جمعية للباراسيكولوجي التي كان يرأسها الدكتور أنيس. 

تجربة غريبة

وبسبب هذه التجربة الغريبة يسافر جودة الساير إلى عالم جديد مستقبلي هو عالم اللاوعي وبسبب ما يراه من أهوال وتحديات، يقرر كتابة مذكراته، ثم يودعها عند سلوى التي يتخاطر معها ويعلم منها أنها ماتت قبل عشر سنوات، وهي بدورها تسلم المذكرات إلى السارد في القصة الأولى، الذي كان قد حضر جنازتها.

وما بين القصتين الإطارية والمضمنة يتحول التحبيك السردي من الاسترجاع إلى الاستباق، ومن الميتاسرد إلى السرد، ومن العقل وبراهينه الى اللاعقل واستحالة خيالاته. وتنتهي الرواية نهاية دراماتيكية، وقد اتخذ التحبيك خطا دائريا، يبدأ بالاسترجاع ويستمر بالاستباق وينتهي عند النقطة نفسها التي بدأ منها، وهي الاسترجاع، وبمنطقية طبيعية تجعل من السرد غير الواقعي سردا واقعيا ومن دون ارتياب المسرود له بحقيقة ما جرى للسارد الذاتي من مغامرات ومفارقات.

العالم المستقبلي

ويسرد البطل من وجهة نظر أيديولوجية ما مرَّ به من أحداث لا واقعية كالتطور المهول الذي وصلت إليه البشرية، وقوة العقل التي أذهلته وجعلت العالم المستقبلي فاقدا كثيرا من إنسانيته وقيمه. وإذا قيل إن أداء السارد الذاتي يؤول على نية الحلم الذي من خلاله ذهب السارد البطل في سياحة في بواطن العقل اللاواعي، فإن هذا مردود بالأدوار الأخرى التي أداها هذا السارد، ومنها قيامه بدور المشاهد والمراقب وعيناه ليستا مغمضتين عن رؤية أشياء لا يحاول أن يجاريها واقعيا، وإنما هو يصطنعها من خياله، وهو على وعي تام بأنه يعيش في زمن غير زمنه، متجولا من مكان إلى آخر غير حالم ولا مرتاب. وهذا هو الإدراك الواعي الذي يميز القصة الواقعية المستعملة لتقانة الحلم عن القصة غير الواقعية، ومن ثم تغدو اللامنطقية حاضرة للوهلة الأولى ثم تتلاشى تدريجيا بانتقال الإدراك الواعي من السارد إلى المسرود له، ثم إلى القارئ الذي يكون في نهاية القصة قد استوعب منطقية الحبكة في تلاقي القصة المضمَّنة بالقصة الإطارية، مطمئنا إلى أن ما حصل محتمل وقوعه، وربما متوقع.

المساحة الزمانية

ويتناوب الزمان في القصتين بين زمان حاضر وزمان قادم، وإذا كانت المساحة الزمانية التي أُعطيت للقصة الثانية هي الأكثر من الأولى، فلأن مقصدية رواية «الزمن الحديدي» هي توكيد فاعلية الزمان وقبضته الصارمة على الإنسان، سواء أكان هذا الزمان حاضرا أم كان مستقبلا.

وما النوم سوى فسحة للتحرر من قبضة الزمان الحديدية، فكان السبات العميق (الموت تجميدا) طريقا إلى «حياة جديدة» يسافر عبرها البطل «جودة الساير»، بعيدا نحو عالم جديد يبعد أربعمئة عام ونيف، وغايته بلوغ السعادة التي افتقدها في عالمه الحاضر.

والمفارقة انه وجد عالما متطورا حضاريا بدرجة كبيرة، ولكن ليست فيه أية إنسانية، لذا يفتقد السعادة. وقد عزز استعمال ضمير الأنا وجهة النظر الأيديولوجية، كما أن توظيف المذكرات كان وسيلة أخرى استعملها البطل من أجل تدعيم وجهة النظر هذه. اما النوم فلا نعده وسيلة، لأن التحرر منه سيكون بالحلم الذي سيكون هو المقصد، وعندها ستخرج القصة من منطقة السرد غير الواقعي وتدخل في منطقة السرد الواقعي الذي بغيته فهم الزمان وليس التحرر منه.

ومقصدية هذا التحرر تتضح من العنونة (الزمن الحديدي)، كما تتضح من التناوب السردي بين قصتين بزمانين مختلفين، ومن السارد الذي تحرر من القبضة الزمانية نائما أولا وميتا ثانيا ومسافرا ثالثا، بينما السارد في القصة الأولى ظل تحت قبضة الزمان حيا يعلم ما جرى من نوم وموت وسفر، وهو الذي أخبرنا أن سلوى استقالت من عملها في المختبر بعد فشل تجربة التجميد واعتكفت في بيتها وماتت بعد موت الساير بعشر سنوات.  

القصة الإطارية

وإذا كان «الزمان» قد اثبت استحكامه على سارد القصة الإطارية، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، فإن «اللازمان» هو الذي كان مستحكما على سارد القصة المضمنة، من خلال الضياع الأبدي، الذي عاشه وهو في عالم جديد ووجوه جديدة، فكان تكراره المستمر لتاريخ وصوله إلى هذا العالم، وهو الخامس من فبراير عام 2385، دليلا على رغبته في التحرر مما أراد أن يتحرر منه.

ويكون الإدراك الواعي سبيله لتحقيق رغبته في استعادة الإحساس بالزمان فيأخذ بسرد قصة ضياعه، مستعملا ضمير الأنا، قائلا: «هول المفاجأة ظل مسيطرا عليَّ، فمن الصعب أن يصحو إنسان من نومه فيجد نفسه قد كبر أربعمئة عام دفعة واحدة، وأن هؤلاء الكهول الذين كانوا أمامي قبل قليل هم بمنزلة أحفاد أحفادي، وسلوى الممرضة الحلوة... قد أضحت عظامها رميما».

المسار اللاواقعي

وتتواتر المقاطع السردية التي فيها يتكلم السارد/ البطل بمنطقية تحول اللاوعي وعيا، فيأخذ المسار اللاواقعي بالانحسار شيئا فشيئا ويغدو ما يحصل كأنه أمر واقع لا محالة «أنا من الذين يؤمنون أن الحب ما هو إلا جنون... انزع عقلي من رأسي وأقيده بسلاسل ثقيلة وارميه ورائي، لئلا يقفز إلى رأسي ثانية، فأتلعثم وتخور قواي وتلحق بي هزيمة ماحقة».

وتعزز الشخصيات الثانوية هذا التحول من الزمان إلى اللازمان، ومن الواقعية إلى اللاواقعية، وبالشكل الذي يجعل الاستحالة محبوكة بطريقة منطقية تقنعنا بكثير من المشاهدات غير الواقعية التي سيعرفها عصر الازدهار الحضاري، منها أنه لا ولادات ستكون طبيعية أو قيصرية، وإنما هي جميعها ستكون اصطناعية وأن وسيلة التنقل ستكون الكبسولات التي لا تتجاوز مدة الانتقال بوساطتها إلى أي بقعة في العالم أربع دقائق، والبشر صنفان، صنف يؤمن بالعقل، وهم الأكثر، وسماهم السارد أصحاب العقل الأكبر، وصنف لا يؤمن بالعقل، وسماهم التخلفيين الذين يرفضون الاعتماد على العقل والآلة ويعادون أصحاب العقل الأكبر، وهم قلة تركوا الحضارة وانجازاتها وعادوا إلى الطبيعة، وإليهم سينضم البطل جودة الساير، مدركا بواقعية أن العقل ليس وسيلة الإنسان لبلوغ السعادة، لأنه قد يقوده إلى التعاسة، وعندها سيكون اللاعقل هو السبيل إلى تحقيق ما لا يستطيع العقل تحقيقه للإنسان.

ومما اكتشفه البطل أيضا وجود قوى ميتافيزيقية ليس للعقل دور في تفسيرها هي التخاطر الباراسيكولوجي، فتمكن من استعادة التواصل لا مع عالمه الأصلي، بل مع عالم ثالث حقيقي، تعيشه سلوى فتاح الميتة وأودع لديها مذكراته لتقوم باراسيكولوجيا بتوصيلها إلى السارد الذاتي في القصة الإطارية، الذي بدوره يسرد لنا ما في هذه المذكرات من أحداث تتلاقى فيها حلقات الزمان الحديدي.

وظيفة السارد الذاتي

وإذا كانت وظيفة السارد الذاتي في السرد الواقعي لا تتعدى أمورا ثلاثة حددها ميخائيل باختين بـ: 1 - أن يكون للسارد نفوذ على المؤلف، أو: 2 - يكون للمؤلف نفوذ عليه بالإسقاط الذاتي أو: 3 - يكون هو نفسه المؤلف، فإن من جماليات بروتوكول السارد الذاتي في السرد غير الواقعي هي في ما يحدثه هذا السارد من نفوذ على نفسه هو، فيكون كالذي اعتدناه في السرد الواقعي بطلا يتكلم بصوته، ويعبر عن وجهة نظره، لكنه في الآن نفسه يتكلم كآخر يعيش عالمين مختلفين، وهذا الاختلاف هو «فائض الرؤية الجمالية» في رؤية الأنا لحالها غير الواقعي كآخر مشروط وجوده بالواقع الذي يحتله، وهو داخل كون زماني واحد وضمن الظروف الموضوعية عينها.

وإذا كان هذا الأمر محالا ولا معقولا في السرد الواقعي، فإنه بالحدس يصبح بديهيا في السرد غير الواقعي، فلا يقف العقل والجسد والصوت والنظر عند حدود ما هو ممكن التحقق، ومن ثم لا يَحكم عمل السارد الذاتي في تكوين خطابه السردي موضوع أو مقصد أو شكل، بل هو في حالة كلية أو شمولية تعطي لخطابه الحرية في الانفلات من مواضعات الأنا التقليدية، متفاديا ما هو معتاد، سائرا باتجاه اللامعتاد في ما يريد المتكلم قوله أو تنفيذه أو تشكيله، وبإرادة وحضور منطقي ووظائفية تعبيرية حينا، وانطباعية حينا آخر.

والانفلات في وظيفة السارد الذاتي في السرد غير الواقعي يعني أنه لا وجود لما هو لساني ولا لساني، ولا داخل سردي وخارج سردي، والخطاب نص متسق، منطقيا، ولا حاجة له بعد منطقيته إلى الواقع أو الحقيقة، أو كليهما معا.

* ناقدة وأكاديمية عراقية

 

 

 

 

 

 

المصدر: القبس الثقافي 

 

06 يناير, 2022 03:11:14 مساء
0