Skip to main content
نابلس وبلاطها الملون..حكاية مدينة في كتاب

"يسمونها دمشق الصغرى، وهي في واد قد ضغطها جبلان (عيبال وجرزيم)، سوقها من الباب إلى الباب، الجامع وسطها، مبلطة نظيفة، لها نهر جارٍ، بناؤها حجارة ولها دواميس".

وصف لمدينة نابلس تجللت فيه صور الإبداع للرحالة محمد المقدسي في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، ومنه انطلق الكاتب الفلسطيني مهند الرابي وابن المدينة ليسطر صفحات كتابه "نابلس وبلاطها الملون"، ويسرد بجمال حكاية واحدة من أقدم مدن العالم ومواضع الرقي فيها كما هو في بلاطها الملون.

وبتسلسل تاريخ مميز يستعرض الكاتب الرابي فصول مؤلفه الأربعة، ويحكي تراث نابلس وثقافتها وفنها المعماري، ثم يسرد واقع البلاط الملون وصناعته واستخداماته، ويدعو للحفاظ عليه كقيمة تراثية مهمة جعلت المدينة تحفة فنية.

وفي الفصل الأول يستعرض المؤلف تاريخ نابلس كإحدى أقدم مدن العالم، وموقعها الجغرافي وتطور فن العمارة فيها، ولا سيما عبر البلاط الملون في أهم وأعرق مبانيها، رسمية كانت أم شخصية.

ويتناول في الفصل الثاني فن الزخارف الإسلامية الذي توجت بها معالم أخرى في المدينة، ولا سيما فن تغطية الأرضيات وتطوره، من الفسيفساء مرورا بالقاشاني وانتهاء بالبلاط، ثم يعالج الفصل الثالث تفاصيل البلاط الملون بكامل عناصره وألوانه وأشكاله الهندسية المبالغ فيها والمجردة.

بحث وشواهد حية

وشرح الرابي بالتفصيل عملية التصنيع من حيث مراحلها المختلفة والأدوات والمكونات وأسرار تحضير الخلطات، وعرّج على تميز نابلس باحتضانها آخر معاقل هذه الصناعة ورفضها لفظ أنفاسها رغم تحديات جمة.

لم يحدد الكتاب الصادر قبل شهر تاريخا معينا لبدء استخدام البلاط الملون في نابلس، وإن دلت بعض المؤشرات على استخدامه مطلع العام 1900 أو قبله بقليل، وذلك حين انتقل الناس من الصبة (الأرضية الملساء الإسمنتية) إلى البلاط بعد ازدهار بنيانهم وانتقالهم من نابلس القديمة إلى سفوح الجبال المحيطة.

مهند الرابي مؤلف كتاب "نابلس وبلاطها الملون" (الجزيرة)

واستنبط الرابي المتخصص في هندسة الديكور والآثار الإسلامية معلوماته بزيارة مبان خاصة وعامة استخدمت البلاط الملون، كقصر النابلسي ومدرسة عادل زعيتر ومبنى وزارة التربية والتعليم، وحمام الشفاء العام وسط البلدة القديمة وهو عثماني الطراز "فالعثمانيون حكموا المدينة لـ4 قرون".

كما اعتمد على مراجع علمية ومقابلات حية مع أصحاب المنازل أو قاطنيها ومع مصنّعي البلاط، ليجمع بين الشواهد الحية والبحثية ويقدم للقارئ كتابا فريدا "والأول من نوعه" يحكي هذا الفن (البلاط) الأصيل.

يقول الرابي للجزيرة نت إن أحدا لم يتناول موضوع البلاط الملون وتغطية الأرضيات كما فعل هو، وإن ما كتب كان ليس إلا دراسات لأغراض بحثية آنية.

اعلان

قد يختلف استخدام البلاط الملون من منزل لآخر، فهو وإن وجد في إحدى الغرف فقد لا يكون ببقيتها، وذلك حسب الحال المادي للعائلة أو طبيعة التصميم، وقد تُبلط غرفة الاستقبال الرئيسية (الضيوف) بـ"سجادة" بلاط ملونة وبقية المنزل بالبلاط الأبيض غير المزخرف.

و"تغطية الأرضيات هي فن تطور من استخدام ما هو متوفر من حجارة غير منظمة إلى تهذيب الأرضيات الحجرية ومرورا بالأرضيات الفسيفسائية بأشكالها وأنماطها المتعددة والعودة مجددا لاستخدام الحجارة كما في نهاية الحقبة العثمانية، ثم استخدام المدّات (البلاطة) الإسمنتية".

يقع الكتاب الصادر المكتبة الشعبية في نابلس في 120 صفحة من القطع المتوسط والورق المصقول، وبغلاف كرتوني أنيق طبعت على وجهه صورة للبلاط الملون وعلى ظهره سيرة المؤلف ورسالته.

جمال السرد والمحتوى

تميز الكتاب بطرحه أدق التفاصيل، ولهذا استغرق وقتا طويلا في البحث وجمع المعلومات لعدة سنوات وبالتالي تأخر صدوره، ويقول الكاتب إن صدوره "كان بمثابة طفل رزقته" في وقت عصيب ينتشر فيه فيروس كورونا ويولد ضغطا وكآبة كبيرين.

لا يمل القارئ -خاصة النابلسي- من الكتاب بمجرد فتح صفحاته الأولى، فالسر يكمن في السرد التاريخي وغزارة المحتوى، ثم تقديم شرح واف عن البلاط الملون وأشكاله مجملا بالتصوير والرسم، وسيدهش بين ما يقرؤه وما لا يزال ماثلا أمامه ويراه في بيوت المدينة ومعالمها ويصنع أيضا.

وثمة عناوين جانبية أدرجها المؤلف من قبيل العناصر الزخرفية تنوعت بين شكل النبات كورق العنب وزهرة الأكانتس واللوتس وتطورات استخدامه بين عصور الإغريق والرومان والبيزنطيين، وبين الوحدات الهندسية من المربع والمثلث والمخمس والأشكال النجمية البسيطة والمركبة والثُمانية و"الاثني عشرية" (12 ضلعا).

نابلس بحد ذاتها تحفة فنية بحسب الكتاب الجديد (الجزيرة)

ولم يكتف بالصور ليميز أنواع البلاط وأشكاله، بل استوقف باطن صفحات الكتاب وظاهرها ليشرح بالرسم الهندسي محتوى البلاطة الواحدة وموقعها بين نظيراتها في الغرفة الواحدة أو المنزل بطريقة مرقمة.

وعكس استخدام البلاط الملون الحالة الاقتصادية والوضع الاجتماعي والسياسي إبان ظهوره وقدومه عبر الدولة العثمانية في أواخر حكمها لفلسطين في "الفترة الانتقالية"، وهو ما أوجد "تداخلا" بين أنماط أخرى من البلاط، خاصة الأوروبي الذي وجد في مدينة بيت لحم "ولم يقتصر على الأرضيات، بل زخرفت به الجدران".

وأكثر ما يميز البلاط الملون تصنيعه يدويا حتى اليوم، إذ تستغرق البلاطة الواحدة 20 دقيقة، وهو ما يجعل سعرها مرتفعا (نحو 25 دولارا للمتر المربع الواحد) مقارنة بالمصنّع آليا أو المستورد.

دعوات للحماية والتوثيق

وفي الفصل الأخير يفرد الكاتب شرحا عن عملية التصنيع والمعمل الفلسطيني الوحيد الذي ينتج هذا البلاط حتى الآن، وتوارث عائلة أصلان المالكة للمصنع للمهنة عبر جدها جميل أصلان الذي جاء بها من بلاد الشام عام 1910، ويسرد رواية شفوية أخرى للعائلة تقول إن هذه الصناعة بنابلس عرفت بين عامي 1860 و1880.

في كتابه، يريد الرابي توعية الجيل الشاب بأهمية البلاط الملون كرمز من التراث الفلسطيني وحث المختصين من الأكاديميين وغيرهم على الاستفادة منه والخروج بمؤلفات أكثر حفاظا وشمولية.

ويقول إن الكتاب يوثق لمرحلة مهمة تاريخيا ووطنيا في ظل عمليات تزوير إسرائيل التراث الفلسطيني ونسبته إليها "فقد سُرقت أرضيات بلاط كاملة وبيعت للاحتلال جهلا أو بقصد".

وهو يقلّب الصفحات ويخط عبارة الإهداء فوق نسخة قدمها للجزيرة نت لفت الرابي إلى أنه ذيّل كتابه بعبارات لشخصيات فلسطينية من نابلس وغيرها كان لها دور في تحفيزه لإتمام مؤلفه، ويقول خاتما "إذا أردت الكتابة فابدأ ولو بكلمة، فالمهم أن تبدأ".

المصدر : الجزيرة

08 Oct, 2020 05:35:13 PM
0

لمشاركة الخبر