Skip to main content
تاريخنا.. بين إعادة القراءة وإعادة الكتابة

تاريخنا.. بين إعادة القراءة وإعادة الكتابة

 

قضية تاريخية هامّة، أثيرت في بعضِ الأقطار العربية مُؤخّرًا، وَشَهِدَ تفاعُلاتِها عَدَدٌ من المنتديات والملتقيات الفكرية التاريخية العربية، حيثُ تمحورَ النقاش فيها حولَ الدّعوة إلى إعادة كتابة التاريخ، وبعضهم حدّد التاريخ المقصود؛ بأنّه «التاريخ القومي» وكان أحَدُ أوْجُهِ الخلاف البارزة قد تصاعَدَ حولَ البحث في طبيعة العمل المطلوب: هل هو إعادة كتابة التاريخ، أم إنّه إعادة قراءة له؟
وقد لوحظ من مُجمِل الآراء المطروحة غياب الرؤية الصافية والتمييز الحاسم بين كلتا العمليتين. عملية إعادة القراءة وإعادة الكتابة. وفوق ذلك فقد لوحظ القلق والتردد؛ في طَرْقِ المتحاورين لأبواب الأزمة الحقيقية، التي تُهدّد مثل هذه الأعمال كلها، ألا وهي أزمة الخُلُق ِ الفكري للثقافة المعاصرة.
إنّ إعادة كتابة التاريخ، عملٌ عِلميّ صارم، يخضعُ لمنهجٍ عِلميّ مضبوط في جَمعِ المادة، ونقدها إسنادًا ومضمونًا، وتحقيق ثبوتها التاريخي، ونحو ذلك؛ مما يجعل نطاق الرأي الاجتهادي للباحث محصورًا في شريط هامشي ضيِّق، متعلق بأصْلِ الرواية لا بفكرتها، ومثلُ هذا المنهج العِلمي؛ لا يُؤتي أُكُلَهُ وثمراته، إلا إذا ترسَّخت قواعِدُهُ في مناخِنا الثقافي العام، واتّفقتْ الكلمة حَوْلها، ونَبَتَ في ضميرنا الإنسانيّ، الوازع الذاتيّ، الذي يحولُ بيننا وبين أيّة محاولة لانتهاكِ قواعِدِ المنهج، لحاجةٍ في النفس أو غرضٍ في الحياة.
ولا شكّ أنّ هذا الاحترام للمنهجية العِلمية، وذلك الالتزام القِيَميّ والأخلاقيّ، هو من الأمور التي لا يخفى وجودها أو عدمها أو وَضْعُها في فلكٍ ثقافيٍّ ما، لأنّها تنعكسُ بالضرورة على مناحي النشاط الفِكري والثقافي عامّة؛ في الأبحاث والمحاورات، بحيثُ يمكن للناظر أن يُقرّر – مِن غير كَدٍّ أو عناء – ما إذا كان هذا المناخ الثقافي والفكري، يملك قِيَمًا خُلقية وعِلمية صحيحة أم لا...
أمّا قراءة التاريخ، فهي رؤية ٌ في الأحداث، ورحلة ٌ في خلفياتها وظلالها وخفاياها، ومحاولات ٌ لتفسير تحوُّلاتها ومظاهرها، وهذا كُلّه من جولان الخاطر، وإرسالات الفكر، ونشاطاتِ المُخيِّلة، فليس يلزمه، من حيث المبدأ، قاعدة منهجية صارمة، أو مُحدَّداتٌ عِلمية سابقة؛ لأنه ليس من شأنه – أصْلًا – أن يتدخلَ فيما ثبتَ بالبحث العِلمي من أحداث أو مواقف أو محولات أو شخصيّات، بالتعديل أو التغيير أو الزيادة أو الحذف، فإذا صحّ في أمره شرط ٌ، ولزمه حَدّ ، فهو الوقوف عندَ حدود ما أثبته البحث العِلمي، لا يتعدّاه...
فقراءة التاريخ، هي من باب التعليق الصّحافي على الأحداث، الذي يُقدِّم الحَدَث كما رُويَ، ثم يَطرحُ تحليله له، ورؤيته لأبعاده أو خفاياه التي سَكَتَ عنها الناقلون والرواة.
ومن هذا المنطلق، وجدنا الحِسّ الثقافي العام يُفرِّقُ بين العَمَلين، ويتشدد في إعادة كتابة التاريخ ما لا يتشدد في إعادة القراءة...

 

 

المصدر: الدستور 

11 Nov, 2020 11:03:31 AM
0

لمشاركة الخبر