Skip to main content
الصداقة... وفظائع الحرب الأهلية اللبنانية

الصداقة... وفظائع الحرب الأهلية اللبنانية

 

 

من بين العادات التي ظلت حية عبر الزمن وترسخت في وجدان اللبنانيين على مر الأجيال عادة إطلاق تسمية «الخواجا» على كل وجيه من أعيان قراهم أو مجتمعهم. وهي كلمة ذات أصل أعجمي لا تزال منتشرة حتى اليوم، بينما في الماضي بخاصة أيام حكم الصليبيين كان اللقب مخصصا للأجنبي الأوروبي، دلالة على أنه أرقى مرتبة ونبيل الأصل.
هذا ما يخبرنا به محمد طعان في مفتتح روايته «الخواجا» التي صدرت ترجمة عربية جديدة لها في القاهرة عن دار «أخبار اليوم» الصحافية أنجزها المترجم علي مقلد. و«طعان» كاتب لبناني يعمل طبيبا جراحا بنيجيريا ويكتب بالفرنسية.
بطل العمل هو أحد أعيان قرية لبنانية ساحلية صغيرة حاز لقب «الخواجا» عن جدارة فهو يتحدر من عائلة عريقة طالما أنجبت علماء وأدباء.
وتبدأ الأحداث عام 1985، ذروة حرب عبثية مجنونة يتم القتل فيها على الهوية، حيث يهرع العجوز «جوزيف»، وسط انهمار القذائف وزخات الرصاص إلى بناية وسط العاصمة بيروت، تحولت إلى ملاذ للهاربين من الموت المجاني، وهم ينتمون إلى هويات شتى. البناية يملكها الطبيب الراوي الذي يشعر بميل نحو العجوز لا تفسير له. يقرأ على وجهه حزنا يدعو إلى التعاطف والأسى حيث يشع من عينيه العسليتين حنان ورقة لا يتركان الناظر غير مكترث، إذ يمتزج في نظراته «ورع التقي وجزع المكبوت» على حد تعبير الراوي. يشعر بحاجته إلى الكلام والبوح فيستجيب لندائه الصامت.
يبرع المؤلف في وصف مشاعر التضامن التي تنشأ سريعا بين من التجأوا إلى البناية هربا من موت يختبئ هنا وهناك، فقبل الحرب الأهلية لم يكن سهلا أن ترتبط بصداقة مع الآخر، لكن الوضع اختلف الآن فالخوف المتولد في أعماق كل مواطن جراء ما يجري في شوارع المدينة كان يخلق شعورا قويا بالترابط حتى لدى أكثر الأشخاص استعصاء على الحياة المشتركة. إنه الإحساس المشترك بالخطر.

ويسرب طعان في ثنايا السرد والحوار بعض المداعبات العفوية بين الشخصيتين الرئيسيتين في محاولة للتخفيف من سطوة الجو المقبض وأزيز الرصاص الذي يكاد يقفز بين السطور. في الطابق تحت الأرضي من البناية الذي كان يستخدم كمستودع لأثاث مكسور أو أغراض زائدة عن الحاجة، يجتمع الباحثون عن ملاذ آمن. هنا يقدم العم «جوزيف» سيجارة للراوي فيقبلها الأخير ثم يعرف نفسه بأنه طبيب.
يحكي «جوزيف» لصديقه الطبيب قصته في القرية، التي يصفها بأنها كانت «مثالاً للحكم العادل»، حيث القضاء يحكم بالعدل بين المتخاصمين، ولا هوية هناك سوى هوية الحق ولو كان مرا. من هنا جاءت مصيبته الكبرى في ابنه «سامي» الذي انخرط في الميليشيا المذهبية بدعوى أنه يريد أن يدافع عن قضية وجود طائفة، في حين أنه انتمى إليها بحثاً عن مجده الشخصي. لكنه سرعان ما يكشف عن ارتباكه وعدم قدرته على التصرف حين يختطف الموت «وسط نيران القذائف التي ترشق السماء بخطوط من لهب» رفيقه في الموقع عبر قذيفة تصيب الهدف إصابة مباشرة فيصاب بشظية مميتة تخرج معه أحشاؤه إلى الهواء ويغرق المكان بالدماء وتتعالى صرخات الرفيق إلى أن تهدأ رويدا حين يلفظ أنفاسه الأخيرة.
بعدها يطلب رئيس المقاومة الشعبية في المعسكر المضاد من «جوزيف» وأسرته مغادرة المنزل بهدوء وإلا اضطر لاستخدام القوة فينصاع الرجل العجوز هو وزوجته ماتيلدا.
بعد توطد العلاقة بين الرجلين، يسر جوزيف للطبيب برغبته الأخيرة في الحياة وهي أن يعود ليرى بيته القريب من ساحل البحر، المتوج بالقرميد الأحمر والمحاط بأشجار الصنوبر والسرو. لكن يتعذر تحقيق رغبته بسبب تصاعد الهجمات والهجمات المضادة هناك على جانبي ما بات يعرف بـ«الخط الأخضر» والذي يقسم بيروت إلى نصفين. يعز على الطبيب حالة الحزن التي تنتاب صديقه الجديد فيغامر بالذهاب إلى البيت بسيارته ويعود ليؤكد له أن البيت بخير. هو يكذب بالطبع، فالبيت تم نهب محتوياته بالكامل واقتحام أبوابه، وشوهت رشقات الرصاص حيطانه من الخارج.
لا يموت «الخواجا» من الرصاص أو القذائف بل من سرطان الرئة. يداهمه الألم المبرح والسعال الحاد فيقرر صديقه الطبيب الذي يعمل ضمن منظومة الصليب الأحمر إنقاذه بجراحة عاجلة مع إخضاعه لجلسات العلاج بالكيماوي لكن اشتعال الحرب والنقص الفادح في الإمكانات والتجهيزات الطبية بالمستشفى تحول دون محاولات إنقاذ الرجل.
تتشابه كل من شخصية الراوي والمؤلف وتلتقي في كثير من الخطوط العامة، التي من أبرزها مهنة الطبيب الجراح والتي انعكست على دقة الوصف السلس والحكي بعين الكاميرا عن أجواء المستشفيات ونقص التجهيزات الطبية في لحظة مصيرية طارئة وقاسية، على نحو يشى بالخبرة الحياتية التي عاشها المؤلف نفسه، في مجال الطب الميداني لا سيما ضمن منظومة الصليب الأحمر. وهنا تبرز أهمية الإهداء الذي صدر به محمد طعان روايته: «إلى متطوعي الصليب الأحمر في لبنان والعالم».
عبر 142 صفحة من القطع الصغير تتوزع على تسعة فصول وخاتمة، يرسم المؤلف صورة بانورامية بشعة لنفي الآخر ومصادرة الحق في الاختلاف والدخول معه في حرب وجودية صفرية شعارها إما أنتم أو نحن. لكن رغم فظاعة تلك الأجواء، لم يقع الراوي في فخ البكائيات والكتابة الميلودرامية المباشرة التي تجنح لدغدغة مشاعر القارئ، وإنما جاء وصفه موضوعيا مقتصدا وفق مبدأ فني مهم في السرد: لماذا التصريح حين يكون التلميح كافيا؟

 

 

المصدر: الشرق الأوسط 

22 Nov, 2020 04:58:36 PM
0

لمشاركة الخبر