Skip to main content
حكت لي صديقتي هذه الحكاية:

بدأ الصباح مشرقاً بنسمات ربيعية محملة بتلات الورد وحبوب الطلع الطيارة في الهواء مغطية الطرقات ومتسللة للصدور وعبر نوافذ السيارات العابرة. صباح يغري بالانطلاق في هذه المدينة المذهلة التي تجمع بين ملامح الريف حول نهرها وأقصى المدنية في معمارها العريق. وكنت خارجة لتوي من متحف اللوفر باتجاه طريق اللوفر الممتد بمحاذاة نهر السين، كنت اتقدم من إشارة المرور بانتظار أن تتحول للأحمر لأعبر للنهر حين وفجأة اضطرب سيل السيارات المندفع وزعقت فرامل تلك الشاحنة البيضاء في محاولة للتوقف وتفادي دهس ذلك الشاب الذي اندفع بدراجته أمامها. ولم أفهم ماحدث راقبت الشاب يترجل عن دراجته وينحني مقعياً على الإسفلت أمام الشاحنة مباشرة ليلتقط شيئاً عن الأرض، وخطر لي أنه قد قام بتلك القفزة مخاطراً بحياته لالتقاط شيء سقط منه محفظة نقوده أو هاتفه النقال، لكن الشاب نهض من ركعته حاملاً شيئاً في قبضته اليمنى ملوحاً به في وجه سائق الشاحنة، حركة لوم وغضب، وفجأة أدركت أن الذي في قبضته ماهو إلاعصفور دوري. وبلمحة أدركت أن الشاب كان يقف بدراجته على الرصيف حين لمح الشاحنة ترتطم بالعصفور في اندفاعها، وبلا تردد قفز أمام الشاحنة ليمنعها من دهسه. تسمرت عاجزة عن إخراج هاتفي رغم الحاجة الملحة داخلي لالتقاط صورة لتلك اللحظة، لكن المشهد تسارع وتحرك الشاب بالعصفور في يمناه بينما يدفع بيسراه الدراجة أمامه متجهاً صوب الرصيف ومنه لما وراء السور للمنحدر الذي يقود النهر. وتحولت إشارة المشاة للأخضر فاندفعت عابرة الطريق لاحقة بالشاب لأطمئن على مصير العصفور، وكنت يائسة من اللحاق بالمنقذ خوفا أن يكون قد امتطى دراجته وغاب، وسارعت للإطلال من أعلى السور المطل على المنحدر، وفي الأسفل ومباشرة تحت موقعي كان الشاب مقعياً أسفل السور، وهذه المرة سارعت لالتقاط صورة علوية للمشهد، وحاولت لفت نظر الشاب لتحيته على انقاذه لذلك الكائن الضعيف، لكن صوتي ضاع في هدير السيارات ورائي والمركب المحمل بالسياح العابر للسين. ولم اتردد قمت بلفة للهبوط للمنحدر لمقابلة ذلك المنقذ، ولمحته وقد غادر البقعة التي كان راكعاً فيها أسفل السور وصار واقفاً على حافة الماء معطياً ظهره للعالم. تقدمت منه وعلى بعد عشرة أمتار هتفت،

"أيها السيد، رائع ماقمت به." رافعة إبهامي تحية. ولكأن ظهوري المفاجيء قطع خلوته وانتشله من غشية ركل الأرض أمامه بغضب، عندها لمحت أنه كان يبكي. وصعقت أن يبكي رجل على عصفور. مسح الشاب دمعه وقاد دراجته مرتقياً المنحدر للطريق حين تلاشى في الزحام.

انتهزت غيابه لاقترب من الجدار لأبحث عن العصفور، مهما بحثت ماكان ثمة أثر لذلك الكائن، لكأنه لم يكن، و لكأن كل ماجرى ماهو إلا محض خيال، إذ أين انتهى العصفور، قطعاً لم يحمله معه الشاب الذي حين ابتعد كان فارغ اليدين.

"ربما قذفه في النهر ليكون مدفنه الماء." استرحت لتلك

الفكرة، أن يرقد ذلك الكائن الرقيق رقدته الأخيرة في ماء.

وقفت بمواجهة النهر ذاهلة في تلك الحادثة التي وعلى بساطتها فإنها تعيد إحياء الثقة بالإنسانية في زمن لانصحو فيه ولاننام إلا على أخبار انتهاك وإزهاق للأرواح، أخبار تجعلك تشكك بالإنسان ومفهوم الإنسانية، إذ تتكاثر وتتلون الوجوه التي تعمر العالم مراقيه وسهوله ويكون من الصعب التكهن بحجم وجوهر القلوب التي تقطع طريقك أو تمرق خاطفة حولك، لا تدرك من منها المشرع بحجم الكون يهبط من خشية الله أو يتفجر منه الماء، أو مَنْ مِن تلك القلوب الموصد كالحجارة أو أشد قسوة؟ وفي غمرة اليأس من القلوب المتفجرة بالماء يستوقفني قلب يتوقف في حمى السباق على الحياة لينتصر لطير يهوي به قدره من السماء، قلب يبكي لوفاة عصفور في غمرة القلوب التي تمزق أجساد البشر والكائنات بلا تمييز، تلك القلوب التي يتسارع تكاثرها مؤخراً مقدودة من صخر و والتي تدرب صغارها على الرماية بتفجير أهداف حية من رؤوس وقلوب الأبرياء من العُزَّل، لكأن إزهاق الحياة يتحول لهواية يتوسع ممارسوها من المحسوبين على البشر والذين يتنافسون في ابتكار الأساليب الأفدح والأكثر إمعاناً في الوحشية والإعطاب والإبادة.

من هنا تأتي أهمية هذه الحادثة التي قد تبدو للبعض تافهة، وربما أثارت السخرية من شاب يبكي عصفوراً، لكنها تثير الكثير من مرجعيات الرحمة، مثل توصية رسولنا محمد عليه السلام للجيوش "لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقطعوا شجرة الا ان تضطروا اليها، ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا صبيا ولا امرأة.." أنها رحمة في صميم عقيدتنا.

ولا تملك إلا الوقوف بالمفارقة بين جماعات وتنظيمات تتأسس للتبشير بالقتل والتعذير بمواجهة جمعيات تنادي بالرحمة بل وتسعى لحماية حتى حقوق الحيوان، مثل جمعية الرفق بالحيوان التي تأسست بإنجلترا عام ١٨٢٤، أي قبل مايقارب الثلاثة قرون داعية للرفق في معاملة الماشية. نتوقف بالمفارقات التي يحملها الإنسان في صميم تكوينه وفصامه بين الخير والشر، خياران يستفحلان في عالمنا الآن ونجد أنفسنا ضالعين فيهما وندفع غالياً ثمن التردد في حسمهما وإعلاء أحدهما على الآخر.

22 Apr, 2017 01:41:06 PM
0

لمشاركة الخبر