Skip to main content
لماذا لم تفز "بخيتة" بجائزة الرواية الفرنسية؟

من بين الروايات الفرنسية الأكثر مبيعا منذ افتتاح الموسم الأدبي “بخيتة” للفرنسية فيرونيك أولمي، رواية تتوجه إلى الجمهور العريض، من جهة موضوعها وصياغتها الفنية، فقد استطاعت الكاتبة، رغم اتكائها على شخصيات وأحداث واقعية، أن تشد اهتمام القارئ بفضل حبكة مشوقة وبنية سردية محكمة، وهذا ليس غريبا على كاتبة سبق أن نشرت دستة من الروايات.

و”بخيتة” هو الاسم الأول للقديسة جوزفينا بخيتة التي أعلنها البابا يوحنا بولس الثاني طوباويةً عام 1992، ثم قديسةً عام 2000. ومن عجب أن من اختاروا لها ذلك الاسم هم تجار الرقيق الذين اختطفوها وهي طفلة لم تتجاوز عامها السابع، لتتداولها الأيدي من بلد إلى آخر حتى انتهى بها المطاف في إيطاليا. والكاتبة تستعين بما حصلت عليه من وثائق، للغوص في سيرة هذه المرأة الفريدة، منذ نشأتها عام 1869 في عائلة سودانية بقرية أولغاسا في إقليم دارفور.

رحلة العبيد

كانت الفتاة سعيدة بين أب هو رئيس قبيلةٍ مهيب، وأم رؤوم، ولما بلغت عامها الخامس اقتحم القريةَ مجهولون فأحرقوا ونهبوا وقتلوا واختطفوا أختها الكبرى ذات الأربعة عشر ربيعا، وكانت متزوجة وأمّا لطفل. شمل القريةَ خوف من تجار العبيد، فصار أهلها يحذرون الأطفال من تجنب الحديث إلى الغرباء والابتعاد عن القرية. ولكن لم تمض سنتان على اختطاف أختها حتى اختطفت هي أيضا لتبدأ حياة مريرة من العنف والألم والأغلال.

تصور الكاتبة معاناة الطفلة وهي تقاد إلى سوق النخاسة بالخرطوم، في قافلة تجر العبيد عبر الصحراء حيث الجوع والعطش وجلد السياط، وحيث قدر الضعاف أن يموتوا في الطريق ليتركوا فريسة للضباع والكواسر، وقدر الطفل الباكي بكاء يزعج الحراس أن يهشّم رأسه على حجر تحت أنظار أمه.

وهكذا صارت الطفلة سلعة تباع وتشترى، وأداة لإشباع النزوات والرغبات الجنسية لدى بعض الأسر العربية، ثم أمَةً لدى جنرال تركي كان يعذّبها ليل نهار. وكانت المسكينة طوال تلك المدة تتمسك بالحياة بإطلاق “عصفورة قلبها” خارج القضبان كي يحلق في آفاق أرحب، فيما كان جسدها يحتمل العذاب. ثم جاءها الفرج عندما اشتراها قنصل إيطاليا في الخرطوم، فأراد أن يعيدها إلى أهلها ولكن الطفلة، وكانت قد بلغت الثالثة عشرة، لم تعد تذكر لغتها ولا أهلها، وكم حاولت عبثا أن تستعيد أسماءهم وربوعهم، فاضطرت إلى مرافقة القنصل إلى بلده، لتعمل خادما ومربية في مقاطعة فينيسيا.

لم تكن حياتها هادئة في البداية، فقد تطيّر القرويون من سواد بشرتها، وسخروا من لهجتها، وهي التي لا تفهم شيئا مما يقال حولها، إذ لم تكن تحذق الإيطالية ولا اللهجة الفينيسية. وسرعان ما لمحت الجوع والتعب في عيون المزارعين، ولم تكن إيطاليا في تلك الفترة مزدهرة، فأدركت أن للبؤس نفس المذاق في كل مكان، وكانت تعبر عن ذلك في خليط من اللهجات (عربية، تركية، فينيسية) ليس من السهل فهمه بوضوح، ولكن يمكن إدراك معانيه، وتلك غاية التواصل.

ثم ساق إليها القدر من يهديها إلى الديانة المسيحية، فاعتنقتها بحب، لأنها سوف تصبح “ابنةً لأبٍ لن يتخلى عنها أبدا”، فالتحقت بمدرسة دينية حيث تعهدت الأخوات بتربيتها، ثم عهدن لها

بالطبخ ليتيمات المؤسسة التي يدرنها، ثم اهتمت بغرفة المقدسات، قبل أن تعيَّن في الاستقبال. فرامت البقاء بينهن، غير أن “المالكين” لم يرضوا بالتنازل عن أمَتهم، إلا بعد أن أجبرهم القضاء، في قضية شغلت الصحافة والرأي العام سنة 1889، ومنحت خلالها بخيتة حريتها وحقها في تقرير مصيرها، ولا سيما أن العبودية لا وجود لها في إيطاليا.
التحول إلى قديسة

راجت حكاية بخيتة في سائر البلاد، وصدرت شهادتها في سلسلة مقالات، ثم في كتاب بعنوان “حكاية عجيبة” يروي حقيقة ما عانته تلك المرأة. وبدأ الناس يكتشفون “مادري موريتّا” أي الأم الصغيرة السوداء، عندما اضطرت إلى التجول في ربوع إيطاليا والجسد منهك بآثار التعذيب التي عاشتها طوال السنين الخوالي، لجمع أموال ترصد لأجل مقاومة العبودية. وحازت من الشهرة ما حدا بموسوليني نفسه إلى استغلالها للتنديد بــ”الوحشية الزنجية” وتبرير استعماره لأثيوبيا، ثم للتأكيد لاحقا على “المهمة الحضارية” لغزو ليبيا.

وبعد أن صارت تعرف بالأخت جوزفينا بخيتة، قضت نصف قرن من حياتها في دير فينيسي، نذرته لمساعدة الأطفال وضعاف الحال والمعذبين في الأرض، حتى وفاتها. وظل اسمها يتردد في أوساط المسيحيين، حتى في السودان، فلا تذكر إلا باسم “القديسة جوزفينا بخيتة”.

ليس من السهل تأليف رواية عن حياة قديسة، لأن السرد في هذه الحالة سيكون موزعا بين الرغبة في تعريف القارئ بهوية علم ما، وبين المباعدة التي تقتضي جانب الاحترام أمام قديسة فتفقد الحكاية سخونتها وحميمتها. غير أن أولمي استطاعت أن تكون قريبة من شخصية بخيتة، ملتحمة بأحاسيسها وذكرياتها وآلامها في نفَس ملحمي ينسي القارئ أن الأحداث المروية حصلت فعلا.

أما عن اختيار أولمي شخصية القديسة الزنجية، فتذكر أنها اكتشفتها صدفة عند زيارتها لإحدى الكنائس الفرنسية، مع صورة ونبذة بيوغرافية، فتوقفت فورا عن كل المشاريع التي بين يديها لتخصص جهدها كله لحكاية تلك المرأة. وتعترف أن كتابة الرواية استغرقت ثلاث سنوات. وبسؤالها عن العنصر المحفز أجابت: “الصدمة التي أحست بها الطفلة إحساسا أنساها أهلها واسمها”.

08 Nov, 2017 07:42:14 AM
0

لمشاركة الخبر