تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
العربية بين الإهمال والاستعمال

العربية بين الإهمال والاستعمال

 

لاحظ قراء البيان العربي، التي تصدر عن مجمع اللغة العربية الأردني، أن المجلة في عددها الثاني تولي إشكالية الذود عن مكانة العربية، وموقعها بين اللغات، ومنزلتها السنية في الحياة العربية، اهتمامًا كبيرًا، فتخصص لذلك صفحاتٍ توشك أن تؤلف ملفا متخصّصًا في الموضوع، فالمحامي عمر أبو ناموس يتناول مسألة على جانب من الخطورة، وهي: هل تقتصر حماية العربية مما يحيط بها من تحديات؛ أبرزها منافسة اللغات الأخرى، وأخطرها إهمال المتحدثين بها لشروط السلامة، والدقة، في الاستعمال والتداول، على سنّ القوانين، والتشريعات، أم لا بد – مع ذلك - من تثقيف؟ فالواقع الذي نشأ عن إصدار القوانين لا ينم عن أنَّ شيئا قد تغير؛ فما كان قبل القانون، وموادّه، لم يزلْ على ما كان عليه، ولم يتغير كثيرًا، ولا قليلا، وربما زاد الطين بِلةً، لذا يجد الباحث في تثقيف المكلف بتنفيذ القانون وسيلة أجدى، وأنفع، وأكثر نفاذًا، من القانون ذاته. إذ اللغة لا تصانُ بالتشريع، وإنما بالتثقيف البديع، الذي ينمُّي الحرص على الأداء بأسلوب سلسٍ ورفيع.

 

والصحيح أنّ ما يدعو إليه أبو ناموس، في هذا المقال، مع تقديرنا له، ولأفكاره الجيّدة، لا يحقق إلا القليل مما نطمح له، ونتطلع إليه. فكم من الأجيال التي تتابعت على مقاعد الدراسة تقرأ، وتكتب، وتتحدث، وتسمع، وتتفهَّم، وتستوعب، وتستمع لمحاضراتٍ، ودروس لا حصر لها، ولا عدد، في النحو والصرف والبيان والبديع والفقه والتفسير والحديث والأدب، وهذا كله لم يسفر عما يطمح إليه الكاتب، ويأمله، من نتائج، وأولها عشق العربية عشقًا يبلغ مبلغ التديّن، والتصوُّف، النابعين من القلب، والروح، فهذا التعليم، والتثقيف، الذي صحِبَ العربية منذ أزمنة بعيدة في الماضي، حتى يومنا هذا، لم يفلح - قطعًا - في الحد من الأخطاء التي يلهج بها المتحدثون، ويرتكبها الكاتبون، بمن فيهم من يوصفون بالمبدعين، والشعراء المُفلقين، والبلغاء الناثرين. فأنتَ نادرًا ما تسْمع وزيرًا، أو رئيسًا عربيًا، لا يلتوي لسانه بالكلمات، ويعوَجُّ بالحركات، فينصبُ المرفوع، ويرفع المنصوب، ويجرّ الأفعال، ويجزمُ الأسماء، كأنه، مع كلّ تلك السنوات التي قضاها على مقاعد الدرس، لم يسمع بنحو، ولا بصرف، ولم يعرف كيفَ يكون مخرج القاف مباينًا للكاف، أو الغين، أو الهمزة.وأحسبُ أنّ ما لمْ يهتدِ إليه الكاتب عمر أبو ناموس هو التنْبيه على دور الممارسة في التعبير عن ملكة الكلام باللغة، تجسيدًا لما كان يُسميه القدماءُ فصاحة اللسان، وطلاقة البيان، بالفعل، لا بالقوّة والإمكان. فالمعرفة النظرية، والتثقيف، قد تحشو دماغ المتكلم بالقواعد، والدراية بالأنظمة اللغوية من أصْوات، ومقاطع، ومن أدوات، ومن كلمات، بما يغلب عليها من ثلاثي ورباعي وخماسي، ومن جامد ومتصرف، ومن متوارد مترادف، ومتقارب شبه مترادف، ومن مشترك، وشبه مشترك، ومن أضداد وأشباه أضداد، فهذا كله، وما شابهه، وشاكله، شيءٌ، وممارسة الكلام، والكتابة، شيءٌ آخر. وقد أثبَتت لنا التجاربُ أنّ الاكتساب عن طريق التعليم، والتثقيف، اكتسابٌ آني، لا يتركُ لدى المكتسِبِ إلا القليل من مهارة البيان عما في النفس بأسلوب يُسْتحنُ، ولا يُسْتهجن، ويـُسْتمْلح ولا يُـسْتَقـْـَبح. ولدينا من الناس من يعرف القواعد معرفة دقيقة، ونجدهُ أنحى من سيبويه، وأحذقَ من الكسائي وابن خالويه، ومع ذلك يقعُد به اقتدارهُ عن كتابة فقرة من غير أخطاء، أو يتكلم دقيقتين من غير لحْن. فالمعرفة عن طريق التعلُّم، والتثقيف، ليست كالمعرفة المتأتية عن طريق الاسْتعمال والممارسة، فهي أكثر رُسوخًا، وأحْرِ بها أن تصبح طبعًا من طِباع المتكلّم، وسجية من سجاياه، لا من محْدثاتِ التَطَبّع، أو من افتعال السجايا. وعلى هذا المعوَّلُ في النهوض بالعربية، أي: أن تكون لغة الممارسة الكلامية، والكتابية، في جلّ وجوه التواصل الإنساني، والاجتماعي. أما التشريعات والقوانين، والأنظمة، وما فيها من أفانين، فالأهمّ من سنِّها، وتشريعها، والمصادقة عليها في البرلمان، من نواب وأعيان، أنْ تأخذ طريقها إلى التطبيق، لا أنْ تظلَّ حبرًا على ورق، وكأنّها ضربٌ من التلفيق.

 

والمعروفُ أنّ ما تعرَّضت له العربية في أكثر الأحوال هو إقلاع بعض مستخدميها عن استعمالها، واللجوء لاستعمال لغة أخرى. فعزوف المتكلم عن ممارسة العربية يؤدي للعُجمة، وشيوع وباء الأغلاط في اللفظ والمعنى. فقد عرفتُ بعض الأشخاص لا يفهمون الكلمة، وماذا تعني، حتى تستبدلها بما يقابلها بالإنجليزية، أو الفرنسية، أو حتى العامية الدارجة. وشاهدتُ في إحدى الجامعات العربية العريقة في شهر نوفمبر – تشرين الثاني من العام 2009 عميدًا لكليّة أداب يفتتح مؤتمرًا لقسم اللغة العربية فيها بالفرنسية، مع أنَّ المؤتمر، وَفقا لتراتيب القائمين عليه، مؤتمرٌ ناطِقٌ بالعربية لا بغيرها من اللغات.. وهذه أمثلة من العزوف عن ممارسة اللغة العربية مما يسبّب التراجع الذي تُرمى به، ويعابُ عليها، فيقال: إن الكثير من الناس يخلطون بينها وبين لغات أخرى، وأنَّ هذا دليل قصور فيها، وليس دليلَ قصورٍ فيمن يعمدون لهذا الخلط. على أنَّ التشريعات، والقوانين، ليست بالشيء الذي يقلُّ أثره، ويُهمَّشُ دوره. فلولا القوانين، والتشريعات، والأعراف، لظلت العربية في الجزائر - التي عانت من الفَرْنسَةِ سنوات طوالا تربو على القرن- غريبة على الناس، كأيّ لغة مهجورة. ففي بداية عهد الرئيس الراحل هواري بومدين فرض قانون التعريب، وقد جنَتِ العربيَّة من ذلك ثمارًا طيبة يلمسُها كلُّ من يقارن الوضع اللغوي بين ما سبق هذا القانون وما تلاه. فبعد أنْ كان العربي في الجزائر غريب اللسان، على رأي المتنبي، أصبح- لغويًا- على مسافة واحدة من العربي في مصر و الشام، وفي لبنان والعراق. وهذا يعني أن اللغة لا يضيرها أنْ تتحصَّنَ بببعض القوانين. وفي هذا تحضرني رواية تنم على سلطة القوانين في اللغة، والأعراف، وضرورة تحصينها بما يُسنّ منها، أو لا يُسنُّ، وما يشرّع أو لا يشرَّع، فقد سمعتُ من أستاذنا المرحوم إبراهيم السامرائي – غفر الله له وعفا عنه- أنه عندما كان طالبا دارسًا في باريس نُشر بيانٌ من القوى اليسارية الفرنسيّة يدعو للتضامن مع الشعب الجزائري وثورته، وقد قرأ في صُحف تلك الأيام ما قيل عن إحجام الأكاديمية اللغوية الفرنسية، وتفسير امتناعها عن المشاركة في تلك المسيرة، فقد امتنع أعضاؤها عن المشاركة لأنّ البيان المنشور كُتبَ بفرنسية ركيكة. أي أنَّ هذا النفر يأبى التعامل مع تجمُّع يتفق معه في الاتجاه السياسي، لاختلافه عنه في الممارسة اللغوية، وهذا يؤكد أنَّ صوْن اللغة يمكنُ أن يكون عن طريق الالتزام بمستوى معين من العُرف، أو التشريع. فالأكاديمية المذكورة أرادت تلقين المتضامنين مع الجزائر درسًا في اللغة، وهو عدَم الهبوط بمستوى الكتابة إلى درجة الابتذال، فيكون مسْتخدِموها عاجزينَ عن الإبانة عما يريدون بلسان مبينٍ، وقويّ، في آن.

 

على أنَّ العربية واجهت، في عصر الاستعمار الأوروبي، محنَةً لم تواجهها في العصور الأخرى. فكانت ثمة حملاتٌ منظمّة، ودسائس خطرة، يسهر على تنفيذها المستعمرون لفرْض لغاتهم، بما لديهم من جديد الأدوات، ووسائل القتل والآليات، ووجدوا ثغرة كبيرة نفذوا منها لتحقيق ما يخفونه من أغراض ومآرب، ومن كوارث للعربية ومصائب، وهي تشرذم العرب من حيث هم أمة موحّدة، بظهور الهويات الإقليمية، والقطرية، القائمة على التفرقة، والتجزئة، التي لا مسوغ لها سوى العصبية القبائلية، والمصالح الفئوية، والتنازع على الرئاسة، والملك، مما سهل للمستعمرين، وأذنابهم، تنفيذ مهامهم القذرة، بفرض لغاتهم على جلّ مظاهر الحياة، ووسائل التواصل، والتعليم يمستوياته المتعدّدة، وتخصُّصاته القديمة منها والمتجدِّدة، وهكذا لم يجد حماة العربية في زمن الاستعمار إلا أنْ يواجهوا تلك المخططات متفرقين، لا متَّحدين، ومختلفين لا متجانسين. وطغى على العربية بسبب ذلك شيءٌ غير قليل من التشتُّت، والاختلاف، الذي يُضعف الجهد، ويفرِّق الجمع، إن كان الأمر على مستوى تعريب العلوم، أو بناء المصطلحات، واختيار الألفاظ الدالة على ما يستجد من مخترعات في الوجوه المختلفة من النشاط العلمي، والإنساني. وآية هذا أنك تجد في كل بلد عربي مجمعًا للعربية، وهذا المجمع يعمل منعزلا عن سواه، مستقلا عمَّنْ عداه. وكأنّ العربية أصبحت لغيَّاتٍ لا لغةً واحدة، وألسنة متباينة لا لسانا واحدا، مع أنك لو تحدثت مع أيٍّ من هؤلاء الذين يديرون هاتيك المجامع، لأنكروا بشدة هذا الانطباع، وأسمعوك من الكلام عن وحدة العربية ما يصكّ الأسْماع، وعن عِشْقهم لها، وَوَلههم بها، ما لم يهتد إليه ابن زيدون في شعره الغزلي بولّادة. ولهذا، فإن النهوض بالعربية لا تقفُ في وجهه خطوط حمر يرسمها لنا الأعداء، والخصوم، فحسب، ولكنها خطوط حمرٌ يرسمها للعربية الراتعون في مصالحهم الفردية، لا أكثر، ولا أقل.

 

وشيءٌ آخر أحالنا إليه د. محمد الهروط، ونبَّهنا عليه، وهو أن العربية بفضل الاستعمال، في ما مضى من الزمان، تركت بصماتٍ واضحةً، وجليةً، في اللغات المجاورة؛ كالفارسية، والتركية، والإسبانية، والملاوية، والأوردية، وغيرها من اللغات الآسيوية، ولغات شبه القارة الهندية، وبعض اللغات السلافية والصربيّة. وقد عرضَ أمثلة من هذا الأثر الجليّ. وكان هذا بفضل الشيوع الذي يُعزى – في الحقيقة- لأسباب غير لغوية، وإنما هي أسباب دينية تارة، وحضارية ثقافية تارة، واقتصادية ناجمة عن العلاقات التجارية تاراتٍ أُخَر. ففي الفارسية الكثير من المفردات ذات الأصل العربي، والعكس صحيحٌ أيضا، ففي العربية من الفارسية مثل ما في الفارسية من اللسان العربي، لكننا لو تأملنا أسماء الأعلام الشائعة، والمتداولة، لدى الإيرانيين هذه الأيام لوجدنا نسبة كبيرة منها أسماء عربية، لا فارسية أصلا، وهذا ينسحب على التركية الحديثة، وتعد أسماء الأعلام من المعايير التي تنمُّ على شدة هذا الأثر، لأنَّ الناس يطلقون على مواليدهم- إناثا وذكورًا- الأسماء التي يستحسنونها، وهي التي تشيع في التداولِ لخفتها على السمع واللسان، وما يرتبط بها من الإيحاء بالمعاني الحسان. وهذه الظاهرة ما كانت لتشكل ركيزة من ركائز التأثير لولا القرآن، والتعبّد بتلاوته، وقراءته، وتفسيره، فضلا عن تجويده. أما الإسبانية فقد سمعتُ الملك خوان كارلوس يلقي خطابا مُتَلْفزا ومترجمًا ذات يوم يذكر فيه أن في الإسبانية المستعملة هذه الأيام نحو 2000 كلمة من أصول عربية. ولا تخلو الإنجليزية، والفرنسية، من هذا، غير أن الفرق هو أن التأثير اللغوي في هاته اللغات لا يعود لأسباب لغوية، وإنما هي أسباب غير لغوية، ناتجة عن الاحتكاك الحضاري، والتجاري، وربما الاستعماري، والحملات العسكرية زمن الحروب الصليبية، والترجمة عن العربية لهذه اللغات في القرون التي سبقت العصر الحديث. فمن المعروف أنَّ النقاء اللغويّ المحض شيءٌ غير واقعي، فلكلِّ لغة نصيبُها من الاقتراض، والتأثر باللغات الأخرى، قلَّ هذا النصيبُ، أم كثر، وعلة هذا التعاون بين اللغات والمتكلمين بها، هو الاستعمال لا التشريعات، ولا القوانين، فلو أرادت قوَّة، أو سلطة ما، منع هذا الاقتراض، وَوَقْفَ هذا التأثر والتأثير، لكان الإخفاق الذريع، والفشل الفظيع، هما مآل هذه المحاولات، بصرف النظر عن الوسائط المستخدمة لتحقيق ذلك. فالاستعمال، والتداول، يتمتعان بخاصية التشكيل الحتمي للوضع اللغوي.

 

 

 

 

المصدر: الدستور

18 يوليو, 2021 10:32:24 صباحا
0