السمات الشكلية والمضامين الفكرية لمنحوتات خربة الذريح
يعد موقع خربة الذريح من المواقع الاثرية المهمة؛ لما يحتويه من منشآت معمارية واعمال فنية تشكيلية حجرية، تنوعت في اساليب اظهارها بين التجريد الذي ضم منحوتات هندسية واخرى نباتية، واشكال تشخيصية تفاوتت بين تماثيل الالهة واخرى آدمية وثالثة حيوانية.
وموقع خربة الذريح (الضريح) يقع على بعد 20كم شمال شرق الطفيلة ويشتمل على قرية ومعبد نبطي، ويقال ان تسمية الموقع باتت من كثرة القبور والاضرحة التي يضمها المكان، شهد الموقع العديد من مواسم التنقيبات ابتداء من العام 1984م، ويعتبر البرطانيان اربي ومانجلس من اوائل من وصفا الموقع وكان ذلك في العام 1818م، ودلت التنقيبات على ان خربة الذريح مقام ومقر استوطن منذ العصر الحجري الحديث مرورا بالفترة الادومية فالنبطية وصولا للرومانية فالبيزنطية وحتى بواكير الفترة الاسلامية. وبما يخص اعمال النحت فهنالك خاصية لابداع الاعمال الفنية استندت على عمليات التحليل والتركيب لمنظومة من العلاقات التي ترتكز على مرجعيات تأملية واعتبارات ترتبط بالفكر الحضاري النبطي بوصفها نتاجات فنية تعكس دلالات فلسفية تترجم في وسائط مادية وهي خامة هذه الاعمال لتنتقل من اشكالها الفنية وادائها التقني الى مضمونها الفكري، ويمكن القول ان التماثيل النبطية بشكل عام وتماثيل خربة الذريح بشكل خاص بتنوع اشكالها بين التجريدي الهندسي والنباتي والتشخيصي تحاول وتسعى لتتماها مع مواصفات ومظاهر الواقعية في العديد من التفصيلات او ربما تتسامى لتصل الى اشكالا ميثولوجية تجسد الالهة، فهي تعبر عن خاصية العمل المتجانس بين ماهو مادي كخامات وما هو روحي كافكار، وجزء من هذه الاعمال هو محاكاة لما هو موجود في الطبيعة من اشكال، وكثير من هذه الاشكال قد اسقطت عليها مدلولات رمزية مثلت قناعات مجتمعية راسخة.
ولع الانباط بنحت التماثيل سعيا للوصول الى صور نموذجية لالهتهم وملوكهم ورموزهم، وقد تكون هذه التماثيل هي احدى الادوات والملاذات النفسية لمعالجة الخوف والاضطراب والقلق الوجودي الذي يحمي الانسان والمجتمع من كل ما يتعرض له من مشاكل وصعوبات ومحن. اما تماثيل الملوك والقادة والمرموقين فهي تنطوي وتطرح طريقة للتكريم والاحتفاء والتخليد لتلك الشخصيات.
سعى الانباط لنحت تماثيل الهتهم لاكتشاف صورها المغيبة وترسيخها في ذهن المجتمع وتجسيدها بكتل مادية ملموسة وكذلك فقد خلد الانباط رموزهم وشخصياتهم المؤثرة من خلال التماثيل التوثيقية، وتمكنت هذه الاعمال «البديلة» من ان تؤدي غرضها بفاعلية الصور الاصيلة «الاصلية»، وامتازت التماثيل التشخيصية بدقة نحت الازياء التي زينت سطوحها الخارجية وهي بمثابة منظومة من العلامات السيميائية لتؤكد من خلال خطابها البصري الذي تبثه على المتلقي لتعكس مجموعة افكار تعظم فيها فكرة المنحوتات وتاطرها بشكل فخم ومهيب. ومن خلال فحص لسمات وملامح هذه التماثيل يمكن رصد صفة الجمود وخلو ملامحها من اي تعبير او مظهر انفعالي، وتلك هي من اهم سمات الاسلوب الادائي الشكلي النبطي للمنحوتات التشخيصية، اضافة الى عدم الالتزام بالنسب الواقعية للتشريح، ففكرة معظم هذه التماثيل وخاصة تماثيل الالهة تعكس دلالات اسطورية.
ولكن من زاوية اخرى وكهيئة عامة ومكانة محاطة ومؤطرة بالتقديس والتبجيل فقد امتلكت هذه المنحوتات قوة تعبيرية هائلة لما تجسده من افكار ومفاهيم ومعتقدات، وحتى الاعمال التي قد تكون محاكاة لما هو موجود في الطبيعة او لشخصيات وجدت بالحياة، فان اداءها الفني ابتعد عن الواقعية الحرفية، واستطاع الفنان النبطي باسلوبه المتميز من انتاج اشكال لها صفات وملامح ايقونية، ومن خلال مراجعة لما انتجه الانباط في هذا الموقع يمكن التاشير بوجود نحت لاشكال هندسية اشتملت على اشكال المثلثات والمستطيلات كوحدات زخرفية مكررة، اما الاشكال النباتية فجاءت كعروق وقطوف واوراق العنب وزهرة الروزيت واوراق الاكانتس واوراق الغار وحبات الرمان واوراق الزيتون والتي يعكس كل منها دلالاتها الرمزية، وجاء قسم منها بشكل اقرب للواقعية وقسم اخر موزع بطريقة هندسية، اما الاعمال التشخيصية فقد جسدت الهة النصر المجنحة ونحت للقنطور الذي يمثل احد الاشكال المركبة بين شكل الانسان والحصان، ومنحوتات تمثل الابراج السماوية منها منحوتة تمثل برج الجوزاء وتمثال نصفي يمثل برج السرطان وتمثال نصفي يمثل برج الثور وتمثال نصفي يمثل برج القوس وتماثيل لراس انسان وتماثيل لاجساد ادمية وتمثال مؤطر باكليل الغار وتماثيل لحيوانات مختلفة منها العنزة والطير البري والنسر والسمكة وغيرها من الاعمال.
كل هذا التنوع بالاشكال اكان هندسيا ام نباتيا ام تشخيصيا لديه دلالاته ووقعه المؤثر داخل خلجات الانسان النبطي ولدى المجتمع المفعم بالقناعات الميثولوجية، ولهذا فقد تمكنت هذه الاعمال النحتية من ان تبقي الفكرة التي مثلتها حاضرة رغم مرور عشرات القرون على انجازها وبقيت مخلصة لمدلولاتها التي تنتمي الى مستوى تخطى المنظور وذلك لتعبر عن الفكر النبطي المتحرك بالانتقال الشكلي من الصور العرضية الى نظام اسطوري يسعى للوصول الى اللامحدود في سماته الشكلية وتعبيراته ومضامينه الرمزية.
المصدر: الدستور