جامعة مؤتة.. أربعون ميلادًا في ظلالِ التاج
في الديار الأردنية كانت مؤتةُ الإنسانُ والأرضُ تتزين بعروبتها في حاضرة البلقاء على مشارف الشام وشرفات الحجاز، حتى ارتفعت غزوتُها صعودا في مشهد الفتح الأول أمام الرسول عليه الصلاة والسلام ليكونَ جنودُه كُرّارًا كما كانت بشراه النبويةُ بهم ولهم فتحًا مبينًا ونصرًا مؤزرًا وشهادةً خالدة، فلجعفر ولزيد بن حارثة، ولعبدالله بن رواحة كرامات الشهداء مرفرفةً في سماء مؤتة، ومنثورة في شقوق ترابها وأنفاس أهليها، إنها مؤتة : ذِكْرُ زيد بن حارثة وقد كُرِّمَ اسمُه متلُوًّا في القرآن الكريم، وجناحا جعفر بن أبي طالب، وقصيدة عبدالله بن رواحة، وسيف الله المسلول وتكبيرة جند الله في قتام اليرموك ونقعهِا، يزاحمون براياتهم الشهب فلا تقع أسافلها إلا على صدور الرجال وأعاليها إلا في رؤوس الغيم، لتصل تراتيل فرسانهم وسنابك خيولهم وصليل سيوفهم إلى مدائن جِلَّقَ وحلب والفسطاط والقيروان ومراكش وقرطبة حتى بلاط الشهداء، وما كانت دمشقُ حاضرةُ بني أمية وعاصمةُ الخلافة إلا نفحًا من أرجوان مؤتة، وأرجَ كرامةٍ مما جاورها من المدائن، حيث أيلةُ ومعان والبلقاء وبصرى وجرش وإربد والقدس، وحيث الشام كلها مبسوطة الضفاف لشروق شمس الفاتحين.
تلكم مؤتة زنبقة الفتح الأول قد شُدَّتْ عروقُها بين جفني (خشم العقاب) الذي يحطُّ دفء جناحيه على ربى قلعة الكرك، وحول حمى بيضة الدار ومضارب أهليها فرسان الهيَّة الذين حملوا أرواحهم على حدِّ السيف و سمرة الزند وعذرية الهوى؛ فتلاقوا على ظهور المطايا وصدور المنايا مبشرين مستبشرين؛ ليكونوا رصاصا وبارودا في نيران الثورة العربية الكبرى ومواقدها وصولاتها وجولاتها، ولينسجوا أجسامهم خيوطا على مغازل الشمس في نصال حرابها وأسنة رماحها ومداد قراطيسها والهاديات من الصواري المنشئات لنهضتها ودولتها، كانت صيحاتهم يا سامي باش ما نطيع، أولئك ذوائب مؤتة وشهداء الأردن والطيبون والصادقون الصدِّقون والمؤثرون على أنفسهم في ساحات الكرامة ورحى الشهادة؛ يطوفون في حياض المنايا ويعبرونها إلى حيث الملتقى في العلياء وسدرة النصر، إن قيل يا خيلَ الله اركبي، وكُرِّي نفِّسِي عن الرجال والجياد والعرض والأرض.
كان تأسيسُ الدولة الأردنية بدءَ النهضة ومعراجَ الصعود إلى تشكيل الهيبة، والضرب في الحياة إيذانًا بالوعي السياسي والعلمي والفكري، ومن المدارس انبلج الفجر وتبينتْ خيوطُه البيض، ثم من المعاهد والجامعات أضحى العلم قناديلَ للأردنيين جميعًا، وفي بداية الثمانينات من القرن الماضي كانت إرادة الملك الحسين طيب الله ثراه بإنشاء جامعة مؤتة لتكون رغبةً هاشمية في توشيج التاريخ والجغرافيا بالسيف والقلم، إنها غرس الحسين وسقياه، إنها مؤتة التي استظل تلاميذها وفرسانها في ظلالِ رماح بني هاشم و فَيْءِ راياتهم؛ فكانت في البدء معهدا عسكريا علميا تخرّجُ ضباطا يرتقون في مدارج الوحدات العسكرية أفواجا أفواجا، مثلما يتقنون فن الشهادة ودفع العاديات إذا أثرَنْ بهم نقعًا في محراب الوطن ورحاب الأمة، حاديهم توهُّجُ التاج وقداسة القسم وتجدد الولاء للعرش والذود عن الحق وعن حدّ الأردن وحدوده، ووجده ووجوده، هم فرسان مؤتة الذين ما زالوا على ميثاق بني هاشم الذي واثقوهم به.
مؤتة التاريخ امتدادا في الرفادة والسقاية والقيادة والفروسية والشرعية، ومؤتة الجغرافيا قرب مقامات الصحابة الصديقين، وفي تراب مخضلٍّ بمسك الشهداء وثأر الحارث بن عمير الأزدي.
ما بين قريتي مؤتة ومِرْوِد شيدت الجامعة على مرْجٍ قمحي السنابل والحَبِّ ذي العصف والريحان؛ حيث رواد الأرض وقديسوها المعتّقون بسواد الأرض وزرقة السماء، وحيث المناجل التي لا تنبو بأكفِّ أصحابها على مواويل الحصادين وتراويد أهالي القريتين بين صباحات الأقحوان ومساءات الياسمين والأيدي التي تتوضأ بنمير ماء مدين وعين سارة واللجون ووادي الموجب وسيل الحسا، والوجوه الريانة برائحة الشيح والقيصوم والزعتر بعد تجريدها من القتاد والشوك وحنظل الكلأ ليُشَبَّ به الأرطى وقودًا ولظًى لكل معتد أفاكٍ أثيم. وبين تلك الأتلام الخصبة، وخطوط الموقعة الخالدة أسست مؤتةُ الجامعةُ، وارتفعت الأعمدة وتوالت الأبنيةُ قاعاتٍ ومدرجاتٍ ومكاتبَ ومصلياتٍ وساحاتِ تدريبٍ وملاعب.
هذه مؤتة الجامعة تبسط جناحيها العسكري والمدني سيوفا وسنابل وأسفارًا في ظلال التاج كالموج مدًّا وجزرًا، وكالريح نشْرًا ورُخاءً على كبرياء الأردن حاميةً محميةً، قد عجمها جلالة الملك فوجدها على الولاء والعهد والقسم صلبةَ العودِ مكتملة الرشد : علما وفكرا وتنافسا وحضورا .
هي مؤتة قوةُ المعرفة، ومعرفة القوة، دار الحكمة وحكمة الدار، ومعهد العلم وملتقى العلماء ومنتدى الباحثين قد أنضجتها الأربعون ميلادًا، وثقفتها حنكة قادتها الإداريين والعسكريين، ولقد نهض ببعث الفكر في عقول طلبتها أساتذتها المخلصون للعلم والوطن والأمة.
جامعة مؤتة في سيرتها وسيرورتها تدخل زمن الرقمنة أكثر رشدا وتمكنا بوعي مؤسَسٍ على استراتيجية التخطيط ومنهجية العلم والعمل، مؤمنٌ رئيسُها وإداريوها وأساتذتها أن التخطيطَ منهجٌ والإنجازَ فعلٌ والوطنيةَ انتماءٌ وبناء، والإرادةَ منجز منتظر في زمن العولمة العلمية المرقمنة.
فالتعلمُ والبحث العلمي وتنمية المجتمع المحلي سبل أية جامعة تسعى لإدراك النجاح الحقيقي للمساهمة من خلال هذه العناوين المؤثرة الفاعلة المتكاملة لتطوير المجتمع المحيط بها، ولقد نهضت الجامعة بتنميته عقليًّا ومعرفيا واقتصاديا وثقافيًّا، تزامنًا مع الشراكة الوطنية في البناء الحضاري العام للدولة مع الجامعات الأخرى الحكومية والخاصة كافةً، وقد تجاوز عددُها تسعًا وعشرين جامعة.
تلكم مؤتة الجامعة غرسة هاشمية أردنية مباركة تُرْعَى بالعلم الأكاديمي المتجدد والشرف العسكري الصادق وقد حققت إنجازاتٍ مشهودةً وطنيًّا ودوليًّا، هي مؤتة رِعشة الخاطر وخفقة القلب ونبضة الوجد، فسلام على خريجيها فرسان الحق والعلم الذين نالوا بصبرهم مختلف الدرجات العلمية وبيَّضُوا وجهي الأمة والوطن بالخلق والعلم والإبداع، والدعاء مرفوع على الألسنة والأكفِّ لمن يسعى في رِحابِ جناحيها وينهل من مواردها أن يسعد بما يصبو إلى تحقيق مبتغاه، وتحية لكل من تعهدها بالصدق والعمل، نفوسًا زكيَّةً، وعرقًا طاهرًا ومدادًا نقيًّا وكلاما طيبا، فلها الوجد على الوجد كلما تنفس الصبح وأسفرَ، ولها الشوق من الشوق كلما أسرجت الشمس نورَها بأهداب الأردن وأقمرَ، وإن مؤتةَ الجامعةَ – ونحنُ أدرى بها – محرابُ الجنديةِ، حمّالةُ الشهداءِ، قِدّيسةُ الفاتحينَ، بوابة العلماء، محراب العلم والفضيلة، وإنها لقلمُ هذا البلدِ الأمينِ وسيفُه المرفوع، وكتابُه المسطور.
المصدر: الدستور