تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
الكاتبة التونسية فتحية عبيشو تعالج مرارة الفقد عند الطفل

لم يكن الموت من المواضيع التي يمكن أن نكتب عنها للطفل ببساطة، فهو يحتاج إلى الكثير من الحذر والحرفية والدراية بشخصية الطفل وفق المرحلة العمرية التي نختار التوجه لها.وفي الوقت ذاته لا يمكن ألا يتطرق المنشغلون بأدب الطفل إلى هذا الموضوع الهام. ولو قارنا بين ما يُكتب عالميا لوجدنا أنّ الأعمال العربية التي تناولت هذا الموضوع مازالت قليلة. فالموت كثيمة للطفل مازال يخيف دور النشر ويرهبها من تناوله. كما أنه ليس من السهل أن يتوفق الكاتب في الكتابة فيه بالشكل المناسب.

ورغم ذلك يظل الموت مثله مثل الحياة وربما هو مرحلة من مراحلها تحتاج منا أن نكتب للطفل عنها. فهذا الكائن الصغير يعرف الموت بل عليه أن يعرفه لأنه ببساطة موجود في حياته، وخاصة الطفل العربي الذي يعيش في جغرافيا مشتعلة بين حروب وكوارث ناهيك عن مشاكل أخرى تجعل من الموت شيئا منتشرا في محيطه الاجتماعي. فهو لاشكَّ يسمع بجاره الذي مات أو صديقه أو قريبه. وقد يعيش الطفل الفقد بكل تفاصيله وألمه إذا كان الموت قد أصاب أحد أفراد عائلته وخاصة والديه.

ولئن كان من الصعب علينا نحن الكبار أن نتجاوز ما يُحدثه موت أحد أحبابنا من هزة عنيفة في دواخلنا. فحري بنا أن نسأل عن ذلك الطفل الذي مازال يتلمس طريقه في هذه الحياة باحثا عن الفراشة والسنافر والأميرة النائمة والكابتن ماجد..كيف لنا أن نحدثه عن الموت بأسلوب أدبي يستوعبه ويفهمه وينجح في مساعدته على تجاوز هذا المصاب الجلل الذي يعيشه، دون أن ننزلق الى التوجيه المباشر والإرشاد؟ كيف لنا أن نُفهم الطفل ماذا يعني الموت وكيف يتجاوز شعور الحزن إلى القبول والتسليم؟

ولئن تعددت العناوين في المكتبة العربية في هذا المجال، إلا أنّني اخترت أن أقدم لكم اليوم رواية لليافعين بعنوان»عفوا يا مريم» للكاتبة التونسية فتحية شويخة عبيشو، حيث عنونتها بكتابة للأبناء والآباء. وتبدو هذه الجملة مشجعة جدًّا ليقرأ الأباء أيضا ما يُكتب لأطفالهم من باب التعرف عليهم وتفهم سلوكياتهم وما يعيشونه من مشاعر.

بطلة الرواية اسمها سنية وهي فتاة يافعة توفت أمها وتعيش مشاعر قوية من الألم والفقد والحنين بالإضافة إلى رغبة قوية في اتهام من حولها بنكران المعروف ونسيان ذكرى أمها. فهي تعتقد أن والدها بزواجه قد نسي أمها وهو ما جعلها تدخل في مقارنات بينه وبين أمها وبين أمها وزوجة أبيها فتزداد غضبا واحتقانًا.

ولئن أتاحت الأستاذة فتحية عبيشو لبطلتها الصغيرة بأن تعبر عن حزنها وغضبها وذلك ليس فقط لتستبطن مشاعر الطفل في مثل هذا الظرف ولكن أيضا لتتدرج بالقارئ على وقع سرد سلس إلى العقدة السردية التي جمعت بين سنية وأختها الرضيعة مريم (وهي أختها من أبيها) والتي تشعر أنها مذنبة أيضا في الحالة التي تعيشها وهي مواجهة تثير الكثير من القراءات النفسية لشخصية الطفل وشعوره بالألم وردة فعله وهذه الرغبة في الانتقام التي تراوده.

ولكن الكاتبة قد أخرجت بطلتها من هذه الدائرة المحتدمة بالتوتر بكل سلامة حيث اهتدت سنية إلى أن أختها الرضيعة ليس لها ذنب بل إنها غيرت نظرتها لها وهو ما يؤكد أننا بحاجة لنساعد الطفل على تغيير نظرته للعلاقات والأشخاص بعد موت أحد والديه مثلا خاصة بوجود زوجة الأب أو زوج الأم. فليس من السهل على الطفل خاصة في مرحلة الطفولة التي تتراوح من 10سنوات فما فوق أن يتقبل وجود البديل لأمه أو والده.

ومن خلال دخول شخصية العمة إلى موقع الأحداث في نص الرواية، تكشف الكاتبة لبطلتها سوء ظنها وأن والدها لم ينس أمها ولكنه كان يعاني هو أيضا من الفقد إلا أنه نجح في التماثل للشفاء واستئناف حياته وكذلك عليها أن تفعل هي.

تسير القصة في مسار واقعي قريب جدا من الطفل يستبطن مشاعر الحزن والألم وردود فعله العنيفة تجاه نفسه والآخرين. ورغم تعرجاتها وتوترها إلا أنها وصلت بالقارئ إلى برِّ الأمان ليعيش الرضا والتسليم ويتقبل الموت كجزء من هذه الحياة حيث تناولت الرواية موضوع الموت من خلال ثلاث زوايا أولها علاقة الطفل بالمفقود (الأم)، وعلاقة الطفل بمحيطه الاجتماعي بعد الفقد، ثم علاقته بنفسه وهي زاوية مهمة تبدو كمرحلة ثالثة طرحت من خلالها الكاتبة كيفية وصول الطفل إلى فهم الموت على أنه توقف عن الحياة وبداية التقبل والرضا والتشافي دون أن ينفي ذلك مشاعر الحزن والألم وهو ما جسدته البطلة سنية في الرواية.

من المهم أن نذكر أيضا أنه لئن كانت عفوا يا مريم تقدم لليافعين نصا قريبا منهم فإنها أيضا تهدي الكبار فرصة ثمينة ليتعرفوا من خلالها على ما يعيشه الطفل من مشاعر حزن ويتنبهوا إلى الطريقة المثلى للتعامل معه. فسنية في الكثير من المواضع قد عبرت عن افتقادها لاهتمام والدها ورغبتها في وجود شخص قريب منها يتنبه لتفاصيلها وهو الجانب الذي يجب على العائلات عدم إغفاله.

هذا ولم تغفل الرواية أيضا عن تسليط الضوء على نظرة المجتمع لليتيم وتعامله معه فهو إما ينفر منه أو يزيد من مشاعر الحزن التي يعيشه بل إنه يلبسها إياه دون مراعاة لحالته النفسية وهو ما تبين من خلال تعامل الجيران مع سنية.

ويظل الموت من المواضيع الهامة التي تحتاج اهتمام كُتَّاب أدب الطفل ومبدعيه إذ يتجاوز حدود مشاعر الحزن إلى قضايا أخرى تربوية ونفسية واجتماعية من المهم طرحها وتقريبها للطفل القارئ. وعلى هذا الأساس جاءت رواية (عفوا يا مريم) الواقعة في 71 صفحة من القطع المتوسط، من بين الأعمال المتميزة التي توجهت لليافعين وطرحت موضوع الفقد الذي يحدثه الموت في نفسية الطفل.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الكاتبة فتحية شويخة عبيشو تربوية، فهي متحصلة على الأستاذية في علوم التربية. وهي متحصلة على الجائزة العربية مصطفى عزوز لأدب الطفل عن قصتها عفوا يا أبي في دورة 2010. وكانت قد أصدرت عام 2008 قصة «كبرت يا أمي».

 

 

 

المصدر: الدستور

13 أغسطس, 2021 02:26:29 مساء
0