تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
البناء الفني في الرواية السورية من 2011 إلى 2020

البناء الفني في الرواية السورية من 2011- 2020 هو الكتاب الثاني لجمانة صوان بعد كتابها فضاء السجن في الرواية العربية (فضاءات، 2018) وهذا العنوان عنوانٌ لافتٌ للنظر من جهتين، الأولى، أنه يهتم بالبناء الفني، ويمنحهُ الأولويّة على أي شيء آخر من شؤون الخطاب الروائي. والثانية أنه يختص بالرواية السورية في حقبة حَرجَة من تاريخ سوريا الحديث، وفي أزمة داخلية بدأت في آذار (مارس) 2011 وما تزال، وفقا للكثير من التحليلات، مستمرةً حتى إعداد الكتاب.

والواقع أنّ اختيار هذه الحقبة إطارًا زمنيًا لهذا الكتاب شيءٌ محفوفٌ بالمخاطر،محاطٌ بغير قليل من المحاذر، كون الروايات تصدر تباعًا، أو متزامنةً من غير تتابع، وليس بمقدور الباحثة، أو الباحث – أيا كان – حصر هذه الروايات في عدد لا يزيد، ولا ينقص، إذ المعاصرة حجابٌ مثلما يقولون. ولهذا قد يفوت كلا منهما شيءٌ من الروايات، وقد تغيب عن إدراكهما بعض المنشورات، علاوة على أن ما يتوافر بين يدي الباحثة، أو الباحث، قد لا يشمل جلّ الإصدارات التي ظهرت فعلا، لصعوبة الانتقال، والتداول، والتوزيع. ومع ذلك فقد دلّ الجهد الذي قامت به جمانة في كتابها هذا على اليَقَظة في حدودها القصوى. فقاربَ عدد الروايات التي تناولتها العشرين. ومن الكتـّاب الذين شُغلت ببناء رواياتهم الفنّي منْ هم في مقدمة الكتاب السوريين منزلةً، وشهْرَة. فمنهم- على سبيل المثال - خالد خليفة صاحب « لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة « ومنهم حيدر حيدر صاحب « مفقود « ومنهم سليم بركات صاحب « سبايا سنجار «. ومنهم نبيل سليمان صاحب « ليلُ العالَم « و» تاريخ العيون المطفأة «. ومنهم خليل صويلح صاحب « اختبارُ الندم « وشهلا العجيلي صاحبة الروايتين « سماءٌ قريبة من بيتنا « و « صيفٌ مع العدو «.

وقد أوْلت الجنس الآخر من الروائيين موفورَ عنايتها، وكبير اهتمامها،في التقصي، والبحث، ليجد القارئ، تبعًا لهذا، وقفاتٍ نقديّةً إزاءَ أعمال لكل من؛ مها حسن، و روزا ياسين، و عبير أسبر، وديمة ونّوس – ابنة الراحل سعد الله ونوس- وسمر يزبك، فضلا عن شهلا العجيلي. وبعض هذه الروايات من الأعمال الفائزة بجوائز، على الرغم من أنّ الجوائز معيارٌ مشكوكٌ فيه إذا قصد به تأكيدُ الجودة. علاوةً على أنها متنوعة الإصدار، فبعضها من إصدارات دور النشر ببيروت، ودبي، والجزائر، وقليل منها طُبع، وصدر في دمشق، كرواية « مفقود « لحيدر حيدر. وهذا التنوع يُضفي على (عينة) الدراسَة مِصْداقية تُرشّح البحث للظفر بنتائج على جانب من الدقة. فالباحثة أفادَتْ من جلّ التيارات الحداثية في النقد الروائي. صحيحٌ أنها تشير في مقدمتها لاعتمادها المنهج الاجتماعي، وهذا في الواقع ضَرْبةُ لازمٍ في بحثٍ من هذا النوع. ويأتي لزومُ هذا المنهج من حيث اختيارُها للحقبة التي أخضعت فيها الرواية للدراسة الفنية. فهي حقبة صراع داخلي، وتوجّهات تجْمع بين الطبقي، والطائفي، والحزبي، فضلا عن المعارض والموالي. وفي ضوء هذه الفسيفساء الاجتماعية لا تستطيع الدراسة، وإنْ كانت ترتكز على الجانب الفني الشكلي، تجنب الإضاءات التي يتطلبها الدرس النقدي لدلالات الأحداث، والشخوص، وصلاتها بالإيديولوجيات المتناحِرَة حدَّ الاقتتال. ولعل الباحثة– في هذا المقام – قد انضمَّتْ لأولئك الذين لا يؤمنون بضرورة الفصل بين الشكل والمضمون حتى ولو كان هذا الفصلُ لتيسير الدراسة؛ فالمضمون لديها- كما هو لدى هذا الفريق- هو الشكلُ مُتَحقّقًا في البناء الفني. والمدلولُ هو الدالُّ نفسُه ما دام السردُ لا يحيل إلا إلى ذاته، وليس لشيء آخر.

مع ذلك تَضُمّ إلى هذا المنهج، الذي وصفته بالاجتماعي، نهْجا آخر فنيًا، وهو التحليل البنيوي للمتن السردي الذي يَعْني، في ما يعنيه، أنَّ الروايات جميعًا مفتوحٌ بعضُها على بعض، ويتشكل منها بناءٌ شبه متكامل، وموحَّد، يتطلب الدرس النقدي تفكيكهُ إلى أركان، وعناصرَ، هي التي يعتمدها التحليلُ البنيويُّ للسرد. فقد وقفتنا – على سبيل المثال لا الحصر- إزاء الراوي في الروايات، وهذا شيءٌ يوليه علم السرد Narratology كبير اهتمامه؛ لأنَّ من السرد ما هو براوٍ ، ومنه ما هو بلا راوٍ، ومنه ما هو بأكثرَ من راوٍ. والراوي قد يكون أحد شخوص الحكاية، فيُسمى راويًا مشاركا، أو ُممَسْرحًا، بمعنى أنه يضْطلعُ بدور في الأحداث، وليس حكاءً فحسب. وقد يكون من خارج الحكاية، ويعرف عنئذٍ بالراوي العليم، أو كلّي العلم، أو العليم بكل شيء. وقد تُبنى الرواية على تركيبٍ يسمح لكل شخصية من الشخصيات بأداءِ دوْر الراوي، في ما يعرف برواية تعدّد الأصوات، أو رواية زوايا النظرpoints of view وهذا النوع من التركيب شاع في الرواية العربيّة بعد أن كتب نجيب محفوظ(1911- 2006) روايته « ميرامار « متعدّدة الأصوات، التي نحا فيها نحو الكاتب لورنس داريل في روايته رباعية الإسكندرية1957.

ولا يقتصرُ تفكيكُها لهذا المتن الروائي- مع ضخامته - على هذا الركن من أركان الرواية، فقد قامتْ بتخصيص فصل للشخصيّة التي هي عمادُ السرد الروائي، وركنُه الثابت، الذي لا منْدوحَة عنه، وعن العناية به، وعن تقديمه التقديم اللائقَ بدوْره. والطرائقُ التي يتَّبعها الروائيون المبدعون- لا المدَّعون – في تقديم الشخوص كثيرةٌ كثرةً لا تُحصى. بيد أنَّ المؤلفة تلقي الضوء على ما وجدته من طرائق في الروايات التي درَسَتْها فحسب، فهي- مثلا - تجد كتابًا يقدمون وصفا مجملا للشخصيّة، ويُعْنوْنَ بالأسماء، ودلالاتها على المواقف، ومنهم من يكتفون بالإشارة للشخوص من غير تَسْمية، ومنهم من يصوّرون عالم الشخصية عبرَ وصفهم التفصيلي لها، فيما يذهب آخرون نحو الحوار الذي يكشِفُ بتقنية معيَّنة عن دُخيلاءِ الشخصيّة، ويتغلغلون في الأعماق لسبر ما يمور فيها من هواجس، وما يضطرب في أحشائها من لَواعج. وأما الحوارُ في الروايات- وفق دراستها لها- فمنه ما يتجلى على هيئة مناجاة ذاتية فردية تخاطبُ فيه الشخصية نفسَها في ما يسمى (مونولوج) ومنه ما يتجلى على هيئة جدالٍ بين اثنين من الشخوص فأكثر، وهو الذي يُسمى (ديالوج) وكلاهما من الأساليب التي تُسْهم في زيادة معرفتنا بالنفس الإنسانية من منظور الخطابِ السردي. علاوةً على ما سبَق ذكره من طرائق، تجدُ الباحثة في بعض الروايات طرقًا أخرى هي الأحلام، والكوابيس. وذلك شيءٌ يعتمده بعض الروائيين حين تخفِقُ الأوضاع الطبيعية العادية في الكشف عن خفايا الشخوص، فيكونُ الحلُمُ، والكابوسُ، صورةً من صور التعبير غير المباشر عما تمرُّ به هذه الشخصية، أو تلك، من قلقٍ، أو إحْباطٍ ، أو حتى جُنون.

ولا يفوتُ المؤلفة الانتباه لحقيقةٍ ماثلة في الرواية، وهي تصنيفُ الشخصيات على وَفْق الجنس، من ذكور وإناث، وعلى وفق الهوية؛ من دينية، أو طائفية، أو حزبية. وهذا شيء تسمح به طبيعة الدراسة، نظرًا لوفرة الأعمال الروائية، وتنوُّعِها، وتنوع الكتّاب الذين انخرطوا في غير ترتيب مسبق، ولا تواطؤ، على تصوير أوضاع السوريين في مدة من الزمن جرى تحديدها من 2011 إلى 2020 وهي مدّة تشْبهُ حياة السوريين فيها كتلة من الرمال المتحرّكة، التي تتَّصف بسطح رجراج لا يستقر على حال، ولا يُتَبيَّنُ فيه مستقبلٌ من مآل. وعلى نهْج البنيويين تقفُ بنا جمانة صوان إزاء الدلالات الممكنة للمكان، بنوعيْه: الأصيلِ والبديل. أو الوطن والمنفى. أو البيت والسِجْن، أو القرية والمدينة، أو البرّ والبحر، أو المغلق والمنفتح. فلكلٍّ من هذه الأمكنة طابعه الخاص عند الروائي السوري. فالفضاء السردي لرواية تقعُ أحداثها في حلب مختلفٌ - بلا ريب - عن رواية تقع حوادثها في الرقة أو في حمص أو في حماه أو في دمشق. لهذا تجدُ الباحثة لزامًا عليها أن تتناول ما تسميه البعد الثقافي للمكان، ولو أن هذا البعد يمكن أن يُقال: إن تناوله قد يكونُ مناسبًا في تناولها لأثر المكان في تشكيل الشخوص.

ومما يثير الإعجابَ في هذه الدراسة، التحليل المتأني للزمن في الروايات، انطلاقا من التعامل مع المتعدّد باعتباره واحدًا، والمتنوِّع المختلف بصفته متجانسًا. وتبعا لذلك تعرض في الفصل الرابع للزمن الروائي عرضًا تستوفي فيه (تقنيات) السرد على وفق التحليل البنيوي المتبع لدى البنيويين من أمثال رولاند بارط وجيرار جنيت وغيرهما. فأوضحتْ بأمثلة دالة ما في الروايات من مفارقاتٍ زمنية، ومن استرجاع خارجي وداخلي، ومن تنبؤ، أو استباق، واستشْراف، ومن سرد لاحق لآخر سابق، ومن تواتر وحذف، ومن تلخيصٍ وَوَقْف، ومن تناوب في الإيقاع بين سرد بطيء، وآخر سريع غير بطيء. ولم يخل هذا الجانب من إشارات لما يُعرف بالزمن النفسي، وما يتخلل المحكيات السردية من هذيان حينًا، ومن تداعياتٍ حرّةٍ حينًا آخر. ومما ينبغي التنبيه عليه، والتنويه إليه، هو أنّ هذه (التقنيات) لا تتجلى في رواية واحدة، أو اثنتين، وإنما يدورُ الحديث عن الروايات التسع عشرة بصفتها خطابا سرْديًا متكاملا، أو شبه متكاملٍ، على أقل تقدير.

ومن الأخطاء التي يرتكبها الدارسون، ونَـقـَـدةُ الخطابِ الروائي، أنّهم لا يتوقَّفونَ عند الحبكة plot مع أنّ الألمانية فلودَرْنك مؤلفة كتاب « المدخل إلى علم السرد « تعدّ هذا الوقوف ضرورةً لا مناص منها، ولا محيد عنها، فهيَ مدارُ الاهتمام منذ أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد حتى ظهور كتاب الروائي الإنجليزي E.M.Forster في العام 1927Aspects of the Novel فالحبْكة- بأقلّ ما يمكن من التعريف- هي سرد الأحداث سردا لا يخلو من التركيز على الأسباب والنتائج. ومن حسن الحظ أنّ المؤلفة لم ترتكب في هذا الكتاب خطأً كهذا، فقد أولت الحبكة مزيدا من الاهتمام، وجاء الفصل الخامس من هذا الكتاب لتشرح لنا ما يتراءى لها من أنساق معلنة، أو مضمرة، في الروايات، دون أن تتخلى عن مبدأ التساوق بينها، فمنها ما يعمد للتناوب والتوازي بين الحوادث، ومنها ما يعتمد السرد المؤطَّر، والسرد بالتضمين، والنسق الدائري، والمتداخل، أيْ أنها تقفُ بنا عند الشكل الخارجي للسرد دون أن تستبعد العلاقات الداخلية المتشابكة بين الحوادث، وما هو منْها سببٌ للآخر، أو ناتجٌ عنه. وهذا يعدُّ من الإنجازات النقدية التي تحظى بها دراسة جمانة إلى جانب الإنجاز الآخر الذي يتجلى في وقفتها الشيِّقة إزاء تراسُل الأجناس في الرواية. وهو ما أفردَتْ له فصلا هوَ السادس. وهو فصلٌ يمتدُّ في صفحات كثيرة تثير الانتباه. فالرواية السورية الجديدةُ بميلها للتجريب أفادت من (تقنيات السينما) ولا سيما من تقنية القصّ واللصق ( المونتاج، والكولاج) والميتا- قص، وأفادَت أيضًا من تقنياتِ المسرح من حيث التلاعبُ بالزمن عن طريق اللون، والأضواء، والترْجيع. وإذا كانت الرواية بما فيها من عوالم يتمُّ تصويرها بوسيطٍ هو الكلمات، فإنَّ اللغة، تبعًا لذلك، هي أداةُ التعبير الوحيدة، والفعّالة، في الإبداع الروائي، وهي من الأساسيّات التي قامتْ، وتقومُ، عليها الرواية، ودعامةٌ من الدعامات التي تعتمدُها عمليّة التلقّي.

وهذا ما تنبّهت له المؤلفة في الفصل السابع، الذي تُريقُ فيه الضوءَ على التعدُّد اللغوي، والتنوُّع اللساني، مُسْتخدمةً المبدأ الذي تحدَّث عنه المحدثون، وهو اختلافُ الرواية- لغويًا- عن القصيدة، من حيث هي تنوُّعٌ لهجيٌ، وحواريٌ، متوافقٌ مع تعدّد الشخوص، واختلاف الهويّات، وتباعد الأمكنة، وتبايُن الحوارات. أيْ أنّ لغة الكتابة في الرواية لغةٌ مُوضِّعة - بكسْر الضاد المشدَّدة - غايتها الأولى مساعدة القارئ على تخيّل المجريات في أثناء القراءة. وتقريبُ ما يُروى لاذهان القراء كي يتحقَّقوا من أنّ ما يُروى، ويقرأ، واقعيٌ، وغير مُفتعل، ولا مُصطنع، على الرغم من أنه متخيَّلٌ، وغير حقيقيٌ، ولا مَوْضوعيّ. ومع ذلك تُلاحظُ جمانة صوان، في هذا الفصل، تخلي بعض الروائيين، والروائيات، عن ذلك المبدأ، الذي يُعزى القولُ فيه لكلّ من: ميخائيل باختين، و نورثروب فراي. فقد لجأوا – أيْ الكتّاب - في شيء من التعسّف اللساني لاستخدام لغة الشِعْر، بدلا من لغة الرواية: لغة الحياة اليوميّة common speech .

صفوة القول، وزبدة الحديث، أن هذا العرض المتواضِع، على الرغم مما فيه من ارتياح جمّ، واستحسان أَعمّ، لما توصلت إليه جمانة صوان من نتائج، وما أثارته في دراستها من هموم ولواعج، فإنه - برأينا - غير كافٍ لمنح القارئ فكرةً وافية، وجيدَةً، عن الكتاب، إذ من المؤكد – لا المحتمل- أنْ يجد القارئ عند قراءته له أنّ ما ورد في هذا العرض لا يفيه حقه كلّه، ولا بعْض حقّه.

 

 

 

المصدر: الدستور

13 أغسطس, 2021 02:34:44 مساء
0