تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
اللوحة القبيحة

لا أدري لماذا كان يصّر والدي على نقل تلك اللوحة معنا كلما تنقلنا من منزلٍ لآخر وكان يصّر على تعليقها في وسط المنزل، وكنا كأسرة دائمي التنقل تبعاً لوظيفة والدي الذي كان يعمل في الأمن العام وكان يتنقل كل فترة زمنية من مدينة لأخرى وكانت تلك اللوحة تتنقل معنا أينما ذهبنا أو حللنا، فكرت مليا، وحاولت أن أفسر معناها، فعلّها لوحة عميقة ذات مغزى سابر ومستواه أعلى من مستوى تفكيري البسيط أو أن هذه اللوحة هدية من شخص عزيز على قلبه ولذلك يصطحبها لأي مكان يذهب إليه!
كنت في كل صباح أتأمل تلك اللوحة خيوط متداخلة لا أدري هل هي وجه إنسان أو أمواج بحر متلاطم أو هو مجرد مزيج ألوان! حقيقية لم أستطع ولا لمرّة واحدة أن أفهم ما يرمي إليه من رسم اللوحة.
سألت والدتي عن سر تلك اللوحة ولكنها أجابتني: اسأل والدك لأن هذه اللوحة شيء خاص به ويتفاءل به ولطالما طلبت منه إتلاف هذه اللوحة أو التخلي عنها ولكنه يرفض بشدة لدرجة أنني أصبحت أراها جميله وأتقبل وجودها في المنزل...
هل تذكر حينما اختلفت أنا ووالدك عندما كنت صغيراً وذهبت إلى منزل أهلي لمدة أسبوع..
- «كلا ... لا أتذكر..»
- «طول عمرك ما عندك ذاكرة، المهم كان السبب هذه اللوحة»
قررت أن أسأل والدي عن سر لوحته الغامضة! وعن مكنونات هذه الألوان، وعن سبب تمسكه بها وجعلت أنتظر اللحظة المناسبة لأفاتح والدي بالموضوع.
جلسنا مساءً في غرفة المعيشة حيث كان والدي يحب الجلوس على كنبة معينة ويشاهد التلفاز وكان من عادته أن لا يكمل أي برنامج فيتابع البرنامج لحين وصول موعد الدعايات فينتقل مباشرة إلى التقليب إلى أن يهتدي إلى قناة أخرى ويتابع أيضاً لحين دخول الدعايات وينتقل وهكذا دواليك دون أن يعود لما كان يشاهده بالأول وبالتالي فإننا نتابع مقتطفات من معظم برامج القنوات... المهم وأثناء تنقل والدي بين القنوات وجدت أن الفرصة مواتيه وقلت:
- بابا، هل تسمع لي بسؤال؟
- تفضل حبيبي اسأل ما تشاء..
- بابا، ما هو سر هذه اللوحة؟
- أي لوحة!
- تلك اللوحة الغامضة – وأشرت نحو اللوحة المقصودة - .
-ابتسم والدي ابتسامة عميقة وقال لي: ولم السؤال؟
- لأننا ومنذ سنوات نتناقش في سر هذه اللوحة ولا نجد أي إجابة، فلا والدتي ولا إخوتي يعرفون سبب تعلقك الكبير بها ولماذا لا تفارق منزلنا على الدوام!
ابتسم والدي، ثم ضحك لدرجة أننا جميعنا بدأنا بالضحك والقهقهة ونظر نحو والدتي وقال:
- «والله ما إنت قليله يا إم محمد حتى إنت مش عارفة شو السر في اللوحة»! وواصل ضحكه وقال لي: «طيب ما أنا إذا حكيتلك سر اللوحة ببطل سر صح ولا لأ»
- وأبديت تعجبي الشديد من الإجابة، فأضاف والدي.
- اسمع، أحياناً بعض الأمور يكون جمالها في غموضها وعدم وضوحها ووجود شيء غامض أمامك يجعلك دائم التفكير ويجعل دماغك دائم العمل والحركة والبحث أما أن تكون الأمور واضحة وذات دلالة محددة صدقني بأنه سيفقدها الكثير من جمالها وبريقها....
هل تعلم يا بني أن سبب الاختراعات والاكتشافات التي حصلت منذ بدء البشرية وحتى الآن هو الغموض والدافع لكشف هذا الغموض!
ونظر نحوي والابتسامة تملأ وجهه وقال لي:
«فهمت ليش هاي اللوحة دائماً معي؟»
هززت رأسي بمعنى الموافقة! مع أنني بواقع الأمر لم أفهم تماماً سبب وجود هذه اللوحة فهل أراد والدي مثلاً تشتيت انتباهنا –كما تفعل الحكومات- بزرع هذه اللوحة في منزلنا؟ هل تحمل سراً كأن تكون هدية من صديقته القديمة؟ هل هي ورثة من أجداده؟! هل تحمل له الحظ؟ هل يعشق والدي هذه الألوان الممزوجة هكذا؟ هل وهل وهل... وهنا نظرت إلى نفسي وضحكت كثيرًا وأيقنت أن والدي نجح بإثارة التفكير والفضول بشكل عجيب... وأيقنت بأن رسالته وصلت!

 

 

 

المصدر: الدستور

16 أغسطس, 2021 12:39:15 مساء
0