تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
نايف أبو عبيد.. الأغنية والهويّة والتّراث

 لست بصدد الحديث عن أزمة وتراجع الأغنية الأردنيّة في هذا المقال- إن كان هناك أزمة- فما زلتُ أرى وأسمع نماذج جميلة ومشرقة ولها حضور عربي دافئ. كما أنّ الأغنية تمضي في صعود ونزول كأشياء كثيرة في الحياة؛ فتارة هي ناضجة ومتكاملة كلمة ولحنًا وصوتًا، وتارة هي غير ذلك لا لسبب غير أن الفعل يتأثّر بدورة الحياة مثل النّهار الذي يأتي ويذهب في حركة تبادليّة لا تنتهي.

 

وتظلّ الأغنية أمينة لواقع الناس وتعكس مزاجهم وهواجسهم في مرحلة معيّنة. ولو قيّض لنا أن نتتبّع كلمات الأغاني في عقد من الزمان ثم نظرنا بالحوادث التي مرّت بها البلد لوجدنا تطابقًا مريبًا وكأنّنا نقرأ في كتاب من كتب التاريخ التي تؤرخ للمرحلة اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا. فالأغنية باتت ديوان العرب ومصدر من المصادر المهمّة التي لا غنى عنها، وما زالت أيضًا مِن المكوّنات الثقافية والحضارية التي تحمل خرائط التاريخ والجغرافيا ومواسم الفرح والحزن.

 

ولم تكن الأغنية في يوم ما فقط للإمتاع والتّسلية وتزجية الوقت، بل كان هذا وجها واحدًا من وجوهها المتعدّدة- وإن طغى هذا الجانب على غيره- فما زلنا نتذكّر دور الأغنية في الثورات والانتفاضات وإثارة حماسة الشعوب للنهوض ومقاومة المعتدي والآثم. وليس أدلّ على ذلك أكثر من أغاني عبدالحليم الوطنية والثورية التي لعبت دورًا بارزًا في تأييد الثورة وتقديمها للناس البسطاء بكلمات رقيقة وألحان جميلة. وفي عهد الثورات التي رافقت ما يُسمّى الربيع العربي كانت الأغنية أيضًا حاضرة في وجدان الناس وانتفخت حناجرهم وهم يردّدونها بحس عالٍ وتحدٍ وشموخ في الميادين والساحات.

 

الأغنية الأردنيّة ظلّت وفيّة للتراث والموروث الشعبي للحياة البسيطة التي ارتبطت بالأرض والقمح والزيتون. ولا يكتمل الحديث عن الأغنية الأردنيّة إلا بالمرور على مساهمة الشاعر نايف أبو عبيد بالبنية والتّشكيل وهو أمر تناوله بعض من تصدّى لتجربته بالبحث والدراسة. وربّما في مقال لاحق نتحدث عن جيل الروّاد والمؤسسين على صعيد كلمات الأغاني من أمثال سليمان المشيني ورشيد زيد الكيلاني وحيدر محمود وعارف اللافي وغيرهم. يُعتبر نايف أبو عبيد من الشهود والروّاد الذين صاغوا هوية الأغنية الأردنية وحددوا ملامح شخصيتها وموضوعاتها متكئين على التراث الشعبي وناهلين من المفردات اليومية ومجترحين الصور القريبة والسهلة، وقدموا كلمات رائعة ما انفكّت تثير فينا الدهشة والحنين إلى زمن الأبيض والأسود كلما سمعناها. كتب العديد من الأغنيات التي صدح بها المطربون والمطربات على مدار خمسة عقود على الساحتين الأردنية والعربية وحققت نجاحًا وحضورًا جميلين ومنها أغنية (مكتوب على سيوفنا) من ألحان روحي شاهين الذي جمعته الصدفة بسميرة توفيق في الإذاعة الأردنية فكانت هذه الأغنية اللطيفة ثمرة هذا اللقاء العفوي. (مكتوب على سيوفنا/ أهلًا وسهلًا بضيوفنا/ يا عالم طلّوا شوفينا/ ع جبين الشمس حروفنا/ مكتوب على سلاحنا ما نشتكي من جراحنا/ ساح الكرامة ساحنا/ نفدي الأردن بارواحِنا/ مكتوب على زنودنا لاجل الوطن مجهودنا/ نفدي بالروح حدودنا/ ربع الكفافي جنودنا/ مكتوب على بارودنا نحلف ما نخون عهودنا/ نامي يا روح جدودنا/ بالعالي العالي بيوتنا). كلمات بسيطة لكنها تمسّ شخصية الأردني وعاداته وروحه وأنفته وتطلّ على الضمير الجمعي للناس البسطاء والمنظومة الأخلاقية والثقافية والوطنية.

 

ومن الأغاني الجميلة أيضًا أغنية (وين المحبة وين) التي غنّاها الراحل فارس عوض بصوته الدافىء وحسّه المرهف وحضوره المؤنس. كلمات عتاب رقيقة بين المحبين فيها شجن وعاطفة صادقة دون إسفاف ومبالغة أو رطانة مُنْفِّرة. كم وددت وأنا أستمع لهذه الأغنية أن يعاد توزيعها وأن يغنيها مطرب بحس جديد، وفي غالب ظني أنها ستلاقي القبول والنجاح. (وين المحبة وين يا مسهر أجفاني/ بعد السفر يا زين هيّجت أشجاني/ بالله لا ترحل وتروح من دوني/ يا خِلّي يا مدلل يا مسهّر عيوني/ لا تبتعد وتروح يا حبي يالغالي/ تبتعد معاك الروح دهرٍ ما يصفى لي/ أمانة يا حبي خلّك على عهدك/ سلمتلك قلبي جازيتني بصدك/ كفّيت أنا ووفيت والقلب ما تبدل/ يا ريت هواك يا ريت يبقى وما يتبدل).

 

الأغنية الأخيرة التي سأستشهد بها على تجربة الشاعر هي أيضا من تلحين روحي شاهين وغناء محمد وهيب وهي كما أسلفت بداية، تأخذ من الموروث الشعبي وتعيد تشكيله وتصبّه في قالب يناسب الأغنية أكثر من الأهزوجة أو أي شكل آخر مما يُردّد أو يُنشد: (هالخاتم إللي وقع في البير لُوْ رنّة واللي سمع رنته ما دلني عنه/ ياللي سلبت العقل رد العقل ليّا يحيا القلب بالهوى لو عمره بالميّة/ ذكراك الحلوة بعدا ع بالي وعمري ما بنسى يا ولفي الغالي/ بعدك يا عيوني سهرنا ليالي وعا ضو القمر غفيت العيونا/ قاللولي طل البدر قلت البدر وينو/ طلة حبيبي قمر عاللي يحبونه/ لابني للغالي قصر جوا القلب عالي واعيش معاه العمر بالحب سويّة/ يا طير يا طاير خذلي سلامي وقل لمحبوبي حلو الكلام/ قُلْه ع فراقه عيني ما تنامي خلّوْ يرجعلي نغني دلعونا).

 

كتب أبو عبيد عشرات الأغنيات الوجدانيّة والوطنيّة، وربّما تصل إلى مئة أغنية خلال مشواره الطويل ومنها على سبيل المثال لا الحصر بحر العقبة (دلال الشمالي)، فارسنا يا فارسنا (الكورال)، صلّوا على النبي (الكورال)، بلدي الخضرا (سميرة توفيق)، حلوة يا دنيا (نهاوند)، مين غيرك يا حبيب الشعب (فؤاد حجازي)، على جبهة المجد (عايدة الأمريكاني)، يامعلمنا، راس روس، علّيتني يا علي (عمر العبدالّات) وغيرها الكثير. وقد نتوقع مزاج الأغنية وموضوعها من خلال العنوان الذي يفصح عن توجهها ولونها قبل أن نسمعها.

 

ولعلّي من هذا الموقع أكرّر ما ذكرته سابقًا في هذا المقال وأوجّه دعوة لشركات الإنتاج والفنّانين والملحّنين لإعادة توزيع وتجديد بعض أغاني الستينات والسبعينات وربّما الثمانينات من باب إحياء التراث والعودة إلى زمن اللحن الجميل. ولا يفوتني هنا أيضًا التأكيد على موضوع التّدوين والتّوثيق، وهو أمر غاية في الأهميّة؛ بعد أن تمضي بنا الأيام، وما أسرع ما تمضي وتتبدّل اهتمامات الناس، من سيتذكر هذه الأغنيات إنْ لم تُجمع وتُحفظ بين دفّتي كتاب؟ لا أعرف إن كان أرشيف الإذاعة الأردنيّة يحتفظ بكل هذه الأغنيات، وإنْ كان، فهناك على الأغلب أغاني لُحّنتْ لغير الأردنيين وبثّتها إذاعات عربيّة، فأين نحن من التوثيق؟ التوثيق مسؤولية وطنيّة تحتاج لمساهمة كل الأطراف المعنيّة حتّى نحافظ على التراث الجميل.

 

نايف أبو عبيد شاعر شهد الحياة عندما كان للبيادر تقاليد وللحصاد أهازيج، شهد رحلة رغيف الخبز من البذار إلى رائحته الشهيّة في ذلك الفجر الناعم. عندما اختفت تلك الرائحة من مفرداتنا ومدى حواسنا اختفى معها الريف وانحاز لقائمة الذكريات الجميلة التي باتت تتلاشى شيئا فشيئا كلما أوغلنا بالعمر. غمّس صوره الشعرية بزيت الزيتون ولملمت قوافيه سنابل القمح والشعير ولامست موضوعاته كدح الفلاحين وفرح المواسم.

«يا ريت عندي بير ميّه وزير

وطابون صاحي من الصبح بكّير

ورغيف ساخن سفّطه الختيار

وطرقوع خاثر يشفي العلّة».

الله أبا النظير، كان فينا ولم يزل وغاب عنا (وبير المَيِّه) حضر.

 

 

المصدر: الدستور

22 أغسطس, 2021 11:01:40 صباحا
0