تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
ديوان الشاعرة الإماراتية كلثم عبدالله.. «أنسنة الماء»

عبدالناصر الدشناوي *

«إن شعراء الماء هم الذين رأوا وتأملوا أشياء أهملتها حشود الأنهار الواسعة» - فيديريكو غارسيا لوركا

 

إن حضور الماء لا يتوقف عند قدرته الفيزيائية في الدفع والحركة، ولا قدرته البيولوجية في إحياء الموات، بل امتدت لتنبه العقل الإنساني لما هو أعمق من منسوب البحار وجريان الأنهار.

وهو ما استرعى مخيلة الشعر العربى منذ أقدم نصوصه، إذ تواتر عليه الشعراء من العصر الجاهلي والتي انتقلت إلى الشعر العباسي والأندلسي، إذ عكس صوراً شاعرية رائقة في تصوير المتنبي لمياه شعب بوان، والبحتري لبركة الخليفة المتوكل ونوافير الأندلس باذخة الجمال. الى أن جاءت النقلة لتوصيف بُعد آخر للعلامة المائية على يد الشعراء المحدثين الذين لم يُكوّنوا إبداعهم على إرث الماضي، وإنما انطلقوا بأخيلتهم بعيداً عن الجانب التطهيري والجمالي للماء، إذ مازالت الروح التي قدست الماء قدر التصاق الحياة بها تنبض بما هو أبهى.

التفاصيل الدقيقة

فالتعالق الشرطي بين الماء والحياة يجبر المخيلة الشعرية على الغوص في التفاصيل الدقيقة، وتحسس الأساطير التي تراءى فيها البعد التخصيبي الفلسفي للعلاقة الرابطة بين الماء والأرض والحقيقة الرابضة في أعماق الحياة، حتى يمكن الوصف بأن أدب الماء بدا جلياً مع الروايات الدينية في العهدين الحديث والقديم، والذي جاء فيه «في البدء خلق الله السموات والأرض وكانت الأرض خاوية خالية وعلى وجه الغمر ظلام، وروح الله يرف على وجه الماء» التوراة / سفر التكوين، مرورًا بالقرآن الكريم الذي فسر في دلالاته المتعددة ملامح العلاقة بين الماء والأرض وعاد ولخصها جميعاً في الآية الكريمة «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ» الأنبياء الآية 30.

فالأرض بتكويناتها المتشاعبة الخصبة شكلت القطب الأنثوي في العلاقة الثنائية للوجود، والماء هو القطب الذكوري المحرض باندفاعه.. المفجر بانجرافه.. الطاغي بحضوره وجريانه، وما الإرادة الإلهية الجبارة إلا لحظة الصيرورة التي تحيل من العدم حياة، إذ ينبثق من رحم الأرض وقتما اختلج بها الماء وربا كل حي.

العلاقة الإحيائية

هذه العلاقة الإحيائية أضافت للشعر الحداثي ذائقة جديدة، مر وهو يشكلها على جدران معابد فيله الذي رسم مباهج حضارته على ضفاف النيل العظيم، وعلى صفحات ملاحم الإغريق إذ تبدو فيها قوة الماء الجبارة للخلق، وعلى ألواح جلجامش السومرية الخالدة ورسخت في العقول مع أسفار الأوديسة.

والتراكيب الشعرية الحداثية جاءت متجددة كشأن ديمومة الماء وتجدده، أو كما قال الفيلسوف اليوناني هراقليطس «أنت لا تنزل النهر مرتين»، حيث انطلقت إرهاصات الحداثة الأولى بعيداً عن الرؤى الفوتوغرافية للماء في تصوير السيل والمطر والموج والفيضان، إذ استعان تيار الشعراء المحدثين بتركيبات شعرية أحدثت نقلة بعيدة عن سيمياء الماء القديم، لتجعلنا نبشر بالاحتفاء بما هو جدير أن نطلق عليه مصطلح «أنسنة الماء» والذي أجادت في تقديمه الشاعرة كلثم عبدالله التي وعت لتجارب شعراء الماء المعاصرين بداية من السياب (1926 ـ 1964) ونازك الملائكة (1923 ـ 2007)، واستطاعت أن تحدث في ديوانها «ملامح الماء» - الصادر باللغتين العربية والأسبانية أعوام 2020 و 2021- اتجاهاً شديد الخصوصية، وأن تنحت مجرى جديداً يفتح الرؤى على تأويلات جديدة تختزن بداخلها نصاً موازياً، عبر استدعاء الإنسان وتصوير حالاته النفسية ما بين الغضب والسعادة والحزن، وقد انتقلت في رسم ملامح الماء برشاقة لافتة بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، حيث استطاعت أن تقدم لنا الماء للمرة الأولى بطعوم وألوان متجددة، استمدت جميعها من النفس الإنسانية التي تستمد وجودها من الماء، فجاءت الملامح الافتراضية في ديوان «ملامح الماء» شديدة التشابه والملامح الإنسانية، والتي عبرت عنها في إحدى قصائدها:

وكأنني ألقاك في الماضي /كأنك موغل الإبحار/في نبض العروق/ وكأن ماء العين ماء الساقية /كثر التدفق / والجدوال ترتحل / خوفا من المكتوم /في أعماقها /خجلاً من الإفصاح..

* كاتب وشاعر مصري

23 أغسطس, 2021 02:46:07 مساء
0