تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
الثقافة حين تحولت إلى سلعة .. استثمار لا يخضع لمنطق الربح والخسارة

الثقافة حين تحولت إلى سلعة .. استثمار لا يخضع لمنطق الربح والخسارة

 

لم يكد ينتهي الجدل الدائر حول "تسليع" الثقافة، أي تحويلها إلى منتج وسلعة تدر مالا، حتى يتجدد مرة أخرى. ففي الوقت الذي اعتاد فيه العالم على السينما والمسرح والموسيقى كاستثمار ومصدر دخل مالي لأصحابها، أفسحت التقنيات الحديثة المجال لاستثمار أوسع في الأدب والفنون، في ظل شكوى ومخاوف من تيارات فكرية حول فقدان الثقافة هويتها وخصوصيتها إذا ما تم تسليعها

بيع وشراء الثقافة ليس شيئا جديدا، مارسه العرب قديما، فكان الشعراء يعرضون قصائدهم ومديحهم على ملوك عرب الشمال، مثل النابغة الذبياني والأعشى، فتحظى بتداول واسع، والآن باتت جوائز الأدب وقوائم "الأكثر مبيعا" في المكتبات والصحف ومتاجر الموسيقى ترشد القارئ إلى المنتج الثقافي وتسوق له ولأفكاره، وسط مؤيدين لفكرة "تسليع" كل منتج ثقافي، ومعارضين لهذه الفكرة كليا، لأسباب تتناول "الاقتصادية" جانبا منها

الحقيقة الثقافية

يجدد الحديث عن الثقافة كسلعة تباع وتشترى الناقد الدكتور عبدالله الغذامي، من خلال مقاله في صحيفة "الاتحاد" الإماراتية، تحدث فيه عما سماه "بدعة الكتب الأكثر مبيعا"، التي بدأتها الصحف العالمية وخصصت لها أبوابا وصفحات، وكلما صعد كتاب في صدارة "الأكثر مبيعا" تفتحت الأبواب كلها لهذا الكتاب في المبيعات والترجمات والطلبات، ويقاس النجاح بعدد الأسابيع التي استحوذ عليها الكتاب، ومثل ذلك في الأغاني، والعشر الأول في القمة، ومدد تمددها

ويشبه الغذامي هذه الحالة بما وصلت إليه منصات التواصل الاجتماعي، حينما يقوم أحد مشاهيرها بتجربة جديدة تلفت النظر وتنجح في التسويق، فتهب مثلها مغامرات وتجارب بشخوص مختلفين، وكأنه قانون الذوق والعرض والطلب الجديد، ويقول: "لن يسهل هنا تشخيص أسباب الفوز وأسباب الكساد، سوى أن الفوز والكساد يقرران مصير كل فرد، والفرد نفسه لن يعرف كيف يضمن النجاح، لأن النجاح هنا يخضع لاستجابات الذوق العام المنفرط وغير المنضبط، لكن الثقافة وحدها المتنفذة عبر نسقها الذي يخفى كسبب، لكنه يظهر كنتيجة، وفي الأخير، فإن المال هنا هو الجوهر، وكل ما يجلب المال، فهو الحقيقة الثقافية"

مستهلك الثقافة

من زمن الأعشى إلى عصرنا الحالي، وفيه تناول مفهوم صناعة الثقافة وتسليعها وتحقيق الربح منها، الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو وزميله ماكس هوركهايمر، وجاء في كتابهما "جدلية التنوير" الصادر في 1944 فصل خاص بهذا الجانب، أكدا فيه أن التحول في تسليع الثقافة يؤدي إلى تغيير الثقافة نفسها، ما أثر في جميع المنتجات الثقافية، بدءا من أفلام هوليوود إلى الموسيقى، ما أوجد شكلا من الثقافة الشعبية لتلبية الاحتياجات المتزايدة للمستهلكين

أما عن الأسعار، فيقولان: "إن الأسعار المختلفة للمنتوجات الثقافية لا تعكس اختلاف الجودة، بل توفر ترتيبا هرميا للمنتوجات بجودات مختلفة، تناسب أفرادا بمستويات مختلفة"، أي أن المستهلك تحول إلى مادة ثابتة يتم تصنيفه بناء على أنماط جاهزة. في حين ينتقدان في كتابهما كيفية توجيه الناس نحو ثقافة محددة، فما نشاهده ونشتريه وما نرغب فيه هو من الاحتياجات الموجهة، التي يريد بها صناع الثقافة كسب المال. وعيب تسليع الثقافة هو أن ما نظنه عملا فنيا جيدا أو نخبويا على سبيل المثال، قد لا تكون له قيمة وسعر مرتفع في عملية صناعة الثقافة، لأن المستهلك بات يبحث عن سلعة شعبوية أو نوع محدد مسبقا

وذهب أدورنو وهوركهايمر - وهما من أوائل العلماء الذين تناولوا صناعة الثقافة - إلى أن صانع الثقافة يوهم المستهلكين بأن سلعته جاءت مواكبة لردة فعل الجماهير، تكيف ذاتها من أجل تلبية متطلباتها، بينما في الواقع هي التي تكون ذائقتها وتجعلها تتكيف معها

ويبقى الجدل بين هذه النظرية وصناع الثقافة ومؤيدي تحويل الثقافة إلى منتج اقتصادي، بأن ما يريده الناس قد ينحدر بالذوق، أو يفقد المنتج هويته، أو أن موضوعاته لا تصب في قلب الثقافة، فالمستهلكون في بعض المجتمعات يميلون إلى قصص الفضائح والمال والشهرة أكثر من ميلهم إلى المنتج ذي القيمة الثقافية العالية، فيغدو ما هو مهم وخلاق ليس ذا قيمة لدى المستهلك، ولا يحقق ربحا تجاريا

التيبت مثالا

في الآونة الأخيرة، طغى على السطح ملف "تسليع الثقافة"، حينما فتح إقليم التيبت الصيني أبوابه للسياح، للاستفادة من الزوار الذين يشعرون بالفضول نحو هذه الثقافة، فشيد الصينيون مجموعة من الفنادق الحديثة، وفتح أهالي الإقليم بيوتهم للضيوف، وتعلموا لغة المندرين، اللغة الوطنية الصينية، للتواصل مع السياح، في خطوة لم تكن معهودة عن الإقليم المعروف بعزلته وانفراديته بلغته وثقافته وفنونه وعمارته وتعاليمه وأساليب الحياة التقليدية الخاصة به

وبحسب تقرير حديث لوكالة الأنباء الفرنسية، فإن التيبت شهدت تدفقا هائلا إليها، بلغ 35 مليون سائح خلال العام الماضي، رغم تحديات جائحة كورونا، أي ما يعادل عشر مرات العدد الإجمالي لسكان التيبت، في حين زارها في 2019 نحو 270 ألف سائح أجنبي فقط

لكن خطوات التيبت في الانفتاح وتسليع ثقافتها وجدت منتقدين، ولا سيما أن الإقليم بات "ينسلخ" عن هويته وثقافته وخصوصيته، على حد تعبيرهم، ويتعرض فلكلوره وعاداته وتقاليده المتوارثة منذ آلاف الأعوام للتشويه ودخول أياد دخيلة عليها، في سبيل الاستفادة من المدخول السياحي للإقليم

ولعل ما حدث في التيبت من تسليع للثقافة، يشبه ما يحدث في جوائز الرواية والشعر، وجوائز الأدب العالمية وفروعها، التي تترشح لها مئات الروايات والكتب، فتخرج لاحقا بقائمة مصغرة من الروايات المرشحة للفوز بالجائزة، ثم قائمة نهائية بالفائزين، تخضع لاعتبارات اللجنة التي تقيم هذه الكتب، وفي أحيان كثيرة تركز على ثيمة معينة، مثل المثلية الجنسية أو جهود السلام أو نضال المرأة أو معاداة السامية والعرقية أو الإرهاب وحرية التعبير أو أي ملفات سياسية وصراعات عسكرية، يميل صناع الحدث إلى تغليب كفة على الأخرى، وبذلك يتم الترويج لأيديولوجيات فكرية محددة، وتحاول أن ترشد القارئ إلى المنتج الثقافي الفائز، وعلى النحو ذاته، تفعل منصات البث الترفيهية، التي يتغلب فيها الرديء على الجيد في بعض الأحيان، وتسوق لأعمال منافية للآداب وتقحم آراء ومعتقدات وأجندة خاصة

تحذير من فقدان الهوية

حذر محمد عابد الجابري، المفكر المغربي الراحل، في كتاباته من فقدان الهوية وخصوصيتها، إذا ما أصبحت سلعة ترتدي ثوب الثقافة الاستهلاكية، ودون رأيه معلقا: "إن البشر في كل مكان - القادرين على الاستهلاك - توحد بينهم وتجمعهم سلع وبضائع ومنتجات توجد فيهم ميولا وأذواقا ورغبات مشتركة، ترفع من مستوى الاتفاق الثقافي فيما بينهم، وتدريجيا تجرد ثقافتهم من هويتها وخصوصيتها وتلبسها ثوب الثقافة الاستهلاكية الجديدة"

على الجانب الآخر، يخشى مثقفون من أن يخضع المنتج الفكري حال تسويقه لاستغلال الشركات المسوقة، أو الاحتكار، وهبوط مستواه وجودته، وتسطيح الثقافة وابتذالها، رافضين الاستثمار الكامل للثقافة، وإخضاع عناصرها وأدواتها لمنطق الربح والخسارة

 

 

المصدر:صحيفة الأقتصادية

26 أغسطس, 2021 10:25:28 صباحا
0