تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
نظرات في الرحلة الإبداعية للناقد محمود غنايم

غيَّب الموت يوم الجمعة الماضي 13 آب الجاري الناقد الفلسطيني محمود غنايم (1949- 2021) صاحب الكتاب المشهور « تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة (1)» (دار الجيل، بيروت، ودار الهدى – كفر قرع، 1992) وهو كتاب يسلط الضوء على الرواية العربية, باختراقها التيارات التقليدية السائدة, وابتكارها طرائق وأساليب جديدة في أنماط التعبير الفني، مثّلت حالة نضج الوعي الفكري بالذات، والمجتمع، والوجود، لذا سعى في الكتاب إلى التعرف على أهمّ التقنيات المتداخلة في تركيبة «تيار الوعي» ومحاولة الكشف عن مستوياتها الفنية من خلال التحليل الإجرائي لروايات نجيب محفوظ وغيره.. بوصفها نماذج دالة على حضور تيار الوعي في الرواية العربية. أي تسليط الضوء على أدبية النصّ، والبحث في طرائق كتابته، وتقنياته، مثل المونولوج الداخلي, والمونتاج الزماني، والمكاني, والتداعي الحرّ للأفكار، والمعاني... الى غيرها من الأساليب، والمهارات الفنية التي لها أكبر الأثر في الأسلوب. وهو صاحب الكتاب «المدار الصَعْب» وكتاب «مَبْنى النص» الذي سعى فيه لتحليل شيفرة الكتابة في رائعة إميل حبيبي المشهورة « الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل».

ومحمود غنايم ناقدٌ عُرف بتعدُّد مجالاته النقدية، ومراوحته بين نقد الشعر، والقصة القصيرة، والرواية، وعرف أيضًا بابتعاده عن التيار الذي تمثله صحيفة الاتحاد، ومجلة الجديد، الحيفاويتين، حرصًا منه على استقلالية الرأي، والانفراد بموقفه النقدي عن آراء ممثلي التيار الشيوعي.

ففي قراءَة له نُشرت حول رواية عطا لله منصور الموسومة بعنوان «وَبَقيت سميرة»– مع تحفّظنا على هذا العنوان الذي يُذكرنا بعناوين الروايات المبكــّرة كزينب، وغيرها – التي صدرت عام 1962 يردُّ ردًا قاسيًا على أولئك الذين وقفوا منها موقف المنتقد المندّد، لا موقف المستحسِن المقرّظ. وهو ردٌ يفصح فيه عن مرونة موقفه النقدي. إذ لا يتَّفق- قطعا - مع إميل توما الذي ساق هذه الرواية مع رواية (المشوهون) لتوفيق فياض، زاعمًا أن الروايتين كغيرهما من رواياتٍ، وقصص، صدرت في الأرض المحتلة، تفتقران إلى الهوية، خلافا لما هي الحال في روايات عربيّة في كل من مصر وسوريا ولبنان. والناقدُ غنايم يخالفه الرأي، مؤكدا أن الروايتين تعبران عن إشكالية محليّة تتمثل في سعي الكاتبين للتعبير عن نزعة التحرُّر لدى المرأة الفلسطينية، وهذا شيءٌ تنبه له ناقدٌ آخر من غير الشيوعيّين، وهو محمود عباسي في ما كتبه عن تطور الرواية، والقصة القصيرة، في الأدب العربي في فلسطين المحتلة عام 1948.

ويفنّد محمود غنايم ما كتَبَهُ ناقد آخر، باسم مستعار، لا صريح (ع. ل)، في مجلة الجديد أيضًا، وخلافاً لما يراه نقاد الكتلة الشيوعية، يجدُ في شخصيتيّ رياض، وسميرة، شخصيتين تقدمان صورة بائسة للمجتمع العربي الفلسطيني، لا في نهاية عهْد الانتداب فحسب، ولكن في بداية الاحتلال الإسرائيلي أيضًا، وقيام دولة الكيان الصهيوني. فرياض – مثلا- صورةٌ صادقة للبطل المهزوم، إذ لم تصل به ثورتهُ على واقع القرية المتخلف لنتيجة محمودة العواقب، فهو يكاد يكون نسخة ثانية من بطل توفيق فياض في رواية (المشوهون) وانتقاله من القرية إلى المدينة (حيفا) بدلا من أن يُصلح أحواله المأساوية زاده رفضًا لهذه الأحوال، وظلَّ على عهده السابق يراوح بين القرويّ والمدينيّ. فبعد زواجه من سميرة، وجد للتقاليد القروية، والعادات المتحجِّرة، سطوة طاغية عليه، وكبيرة، فتنكــّر لما عدّه أفكارًا جديدة آمن بها، مما تمخَّض عن تدهور علاقته بالمرأة التي أحبّ، فترك زوجته سميرة.

والمؤلفُ – عطا منصور – يرمزُ في هذا كلّه – في رأي الناقد غنايم- لذلك النفَر من الشباب الذين حاولوا التغيير، إلا أن النَسَق الثقافيّ، والتقاليد، والعادات، حالتْ بينهم وبين ما سَعَوْا إليْه .

وهذا ما ينْسَحبُ على شخصية سميرة . فهي تمثل المرأة الفلسطينية في القرى، والأرياف. فعندما سألها وليُّها إنْ كانتْ تقبل بالزواج من رياض، أجابت – كالعادة- : «الثوب اللي بتخَيْطوا لي إيا بَلْبَسو . وتتعرَّض سميرة أيضا لما يتعرَّض له رياض، فثقافتها التي صاغتها التقاليدُ، والعاداتُ، والمفاهيم الفولكلورية عن المرأة، تتنافر مع ما يُسمّيه غنايم « صدْمة الحداثة « بتعبير أدونيس. وتواصل حياتَها في المدينة مع رياض في شيءٍ من الانفصام، والانقسام الذاتي؛ فتلعَنُ الحرية تارةً، وتطلبُها من رياض تارةً أخرى.

وبهذا التحليل الذي يتناولُ الشخصيات في الرواية يؤكــّد محمود غنايم أن رواية عطا لله منصور هذه رواية تقترب بقارئها من الواقع الحياتي اليومي للأكثريَّة العربية في فلسطين في منتصف القرن الماضي. وهي رواية لا تبرأ من البعد السياسي؛ فقد تبيَّن في الفصل السادس منها اختفاءُ رياض، وأنه سجينٌ بلبنان، وعندما يحاول عبد الرحيم – أحدُ الشخوص- التدخُّل لإطلاق سراحه، يرفض العودة. وتنتهي الحكاية باحتلال الجيش الإسرائيلي لقرية رياض احتلالا جديدًا. ويلاقي والد سميرة المصير ذاته – أي الاعتقال- عندما تقوم قوات الاحتلال باعتقال من تظنّهم مُقاومين.

وفي زعم الناقد غنايم لا تخلو هذه الرواية، التي صدَرَت في زمن مبكر 1962 ، من إشارات تُفْصح عن الشوط الطويل الذي بلغه المؤلف من حيثُ إتقانُ البناء، ونسْجُ الحكاية نسجًا لا يغفل فيه عن الحبكة المتماسكة، والتنوّع في اللغة، والمراوحَة بين رومانسية العلاقات، وواقعية النمَط الاجتماعي. وبثنائه على لغة الكاتب في الوصف، والسرد، والحوار، يُفصح عن مرونة التقويم لديه، إذ الواقعية - في رأية - لا تتطلب الانعكاس(2) التام، والدقيق، من الناحية الفنية، فالكتابة الروائية، مثلما تصفُ الواقع، تَسْمح للكاتب أيضًا بالتخْييل الذي يبتعد بنا مسافة كبيرة باتجاه اللا- واقع.

رحمَ الله محمود غنايم، وعزاؤنا فيه ما تركه من كتاباتٍ، وما صنَّفه من مُؤلفات، وما نجحَ في تاسيسه، وإدارته من مؤسَّسات، أهمّها مجمع اللغة العربية، ومركزُ دراساتِ الأدب العربي.

***

1.وهو كتاب مختلف عن « تيار الوعي في الرواية الحديثة « لروبرت همفري الذي ترجمه عن الإنجليزية د. محمود الربيعي. المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2015

2.من المعروف أن الواقعية الاشتراكية في الأدب تصر على ضرورة أن يكون النص انعكاسا للواقع وقد طرأ على هذا بعض التجاوز لدى النقاد الماركسيين، إلا أن من يرد عليهم غنايم يرفضون ذلك التجاوز ويعدّونه رِدّة.

 

 

 

المصدر: الدستور

27 أغسطس, 2021 06:57:48 مساء
0