"الملف 42" لـ عبد المجيد سباطة: إطلالة جادّة على الرواية البوليسية
رواية "الملف 42" للمغربي عبد المجيد سباطة، التي صدرت عن "المركز الثقافي العربي" (2020) وحلّت في القائمة القصيرة لجائزة "البوكر" هذا العام، هي، وهذا جديدها، رواية بوليسية. الرواية البوليسية لا تزال جديدة على الرواية العربية، ونحن نعني بذلك الرواية البوليسية المُحكَمة والموازية لمثيلاتها في الأدب العالمي. لا نجد كثيراً منها في أدبنا، ويمكننا لذلك أن نعتبر "الملف 42" رائدةً في هذ المجال.
ليست "الملف 42" طامحةً من هذه الناحية فحسب إلى موازاة الرواية العالمية، بل هي، في ثناياها، تنتسب إلى هذه الرواية، بل وتسمّي أسلافاً لها فيها وسلالة تَرقى إليها. بل وهي، في صفحتها الأخيرة، تُورد ثبتاً بالروايات التي تتحدّر منها. ثبتاً بروايات أجنبية، وبعضها عربي، لكنّنا أثناء قراءتنا لها نقع على نموذجها الأصلي: "الحياة، دليل استعمال" لجورج بيريك، وهي على حدّ "الملف 42" رواية بوليسية لا تنتهي.
الأرجح أن سباطة يضع روايته مقابلها. وإن اشتملت القائمة التي يوردها، في نهاية كتابه، على ما ليس رواية، فإنها في أكثرها روايات. هذه القائمة تُثير فضولنا على كلّ حال، فهي تحوي محمود درويش وفرانز فانون، وتجمع بين "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست و"الأم" لماكسيم غوركي، وشتّان بين الروايتين. رواية سباطة لا تُعيّن هكذا سلالة لها وحسب، بل تُدرج نفسها في الرواية العالمية.
قصّتان منفصلتان تماماً تتقاطعان في تفصيل صغير فحسب
رواية سباطة بوليسية، لكنّها لا تُماثل النمط الدارج والنموذجي لهذه الرواية، الذي هو عبارة عن جريمة وتحرٍّ واسع لها يقوم به المحقّق نفسه. في "الملف 42" جرائم وفيها تحقيقات، لكنّ الرواية لا تقتصر على ذلك وتذهب أبعد منه. ليست الرواية بذلك إماطة السرّ عن جريمة. الجرائم تقع فيها ولكنّها تتّصل من بعيد، أو قريب، بعوامل أخرى، وتطلّ على آفاق مختلفة، تطلّ على أبعاد فكرية وفلسفية واجتماعية وسياسية. إنها، بهذا المعنى، رواية حديثة تتوسّل الحبكة البوليسية مدخلاً لها إلى آفاق متعدّدة. السياق البوليسي يتقاطع هكذا مع سياقات ثانية.
رواية "الملف 42" ليست ذات قصّة واحدة؛ إنها، من حيث الشكل، تبدأ من قصّتين أو روايتين. القصّة الأولى تبني على رواية حقيقية منشورة هي "الأحجية المغربية"، التي لم تحظَ بالرّواج في لغتها وبلدها، لكنها استلفتت فرنسياً يُحسن العربية فقام بترجمتها الى الفرنسية. الرواية، في موضع منها، تنسب جريمة وأكثر إلى ضابط أميركي (ستيفن ماكميلان) كان حينها في قاعدة أميركية في المغرب، وله ابنة، هي كريستين ماكميلان، التي اشتهرت كروائية، لكنها تمرّ ككاتبة في أزمة، فهي مهدّدة بأن تخسر شهرتها وجمهورها إذا استمرّت في ما هي عليه من أسلوب وكتابة.
الصورة
هكذا تتّصل ببراندون وله أيضاً قصّة فقَدَ فيها قدمه. براندون الذي كانت له علاقة بكريستين في يوم، ينصحها بأن تنشئ رواية حول حياة والدها في المغرب. الأمر الذي يتطلّب زيارة الى المغرب بصحبته. لم تكن كريستين، حتى حينه، تعلم بأن لوالدها ذكراً في "الأحجية المغربية"، لكنّها ستعلم بذلك. هنا عقدة بوليسية يستطرد بعدها سباطة في موضوع رواية "الأحجية المغربية"، وبالضبط في موضوع سيرة كاتبها الذي اختفى بعد نشرها، وناشرها الذي أصابته اللعنة ذاتها، الأمر الذي يفسح هكذا لإضافة روايات أخرى.
كاتب "الأحجية المغربية" ليس واحداً. مَن أضاف اسم ستيفن ماكميلان ليس كاتب الرواية، الذي اختفى، ولكنْ حبيبته التي تزوّجت بعد اختفائه من صاحبه الذي استحال منافساً له، وهو، مع أبناء عمّ الكاتب الذين ينافسونه على إرث، مسؤولٌ عن جريمة أدّت إلى شلل الكاتب واختفائه. هنا ندخل في مسار بوليسي نتوصّل فيه إلى الكاتب المشلول، بعد أن قتل منافسَه وزوْجَ صاحبته في حادث.
يُرفق الكاتب بنصّه ثبتاً بالروايات التي يتحدّر منها
ستكون العقدة البوليسية هكذا مدخلاً إلى رواية سوداء، رواية جحيمية، لكنّ الجريمة تبقى على هامشها، بل تتحوّل إلى تفصيل فيها، هناك ما يتخطّاه وما يتقدم عليه. المناخ الكافكاوي يتعدّى الجريمة أو يحوّلها إلى عنصر فيه. هكذا تتعدى الرواية البوليسية بوليسيتها إلى ما هو أبعد منها. هذا لا يمنع من أن الرواية، في جانبها البوليسي، مُحكمة، بل هي في هذا الباب رائدة في الرواية العربية، التي قلّ ما ينجح فيها هذا النمط. رائدة ليس فقط كرواية بوليسية، بل أيضاً كرواية حديثة.
مع ذلك ثمّة رواية أخرى موازية لرواية ماكميلان. إنها رواية بلقاسم الذي دفعه ظرفه المعقّد إلى الرحيل إلى روسيا، لدراسة الطبّ، لكنّه في روسيا يواجه محنة قادته إليها الصدفة، فقد كان في المسرح رفقة صديقته في اليوم الذي استولى فيه مسلّحون شيشان على المسرح في واقعة مشهورة. هذا ما يستتبع مساراً آخر نطلّ منه على السياسة في روسيا والمغرب. اعتقل بلقاسم بتهمة ملفّقة في سيبيريا واستطاع أن يعود أخيراً إلى المغرب. الروايتان حتى هنا منفصلتان تماماً ولن تلتقيا. ستتقاطعان في تفصيل صغير، ويبقى التقاؤهما مع ذلك، في رواية واحدة، ملغزاً. رغم طول رواية بلقاسم تبقى هامشية بالنسبة إلى الرواية الأولى، بل تبقى رواية قائمةً بذاتها لا تندمج في صلب الرواية، التي تبقى، مع ذلك، رواية ماكميلان والأحجية المغربية.
المصدر: الشرق الأوسط