تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
عالم الدجالين والمشعوذين في رواية مصرية

يكشف الروائي المصري الدكتور حاتم رضوان في روايته «زاوية الشيخ» التي صدرت حديثاً عن دار النسيم بالقاهرة أسرار وخفايا عالم الدجل والدجالين والمشعوذين الذين ينتشرون في مناطق شعبية مختلفة، وكثير من المدن الصغيرة المصرية والمجتمعات الريفية، ويتخذونها مركزاً لأنشطتهم للإيقاع بفرائسهم، والتغرير بهم، تحت زعم أنهم قادرون على كشف المستور، وشفاء الأمراض، وامتلاك دواء لكل داء.


ومن خلال الأحداث التي يسردها الكاتب، عبر مشاهد كاشفة مكثفة تتناثر هنا وهناك في فضاء الرواية التي لا يزيد عدد صفحاتها على 70 صفحة، تتوزع الأحداث وحكايات الشخصيات عبر كثير من المقاطع التي تتراسل فيما بينها، تتقاطع تارة، وتتلاقى تارة أخرى، ويُكَون منها المؤلف في النهاية صورة بانوراما سردية كلية يقدم من خلالها نماذج حية لمشعوذين يسعون باسم الدين لتحقيق مصالح ومكاسب مالية، ونسج شبكة من العلاقات مع رموز ونجوم ومشاهير المجتمع، يتطلعون من خلالهم للترقي إلى مكانة اجتماعية بارزة، والنفاذ من خلالهم إلى عقول البسطاء والمغيبين والمأزومين الذين يبحثون عن مهرب من آلامهم وعذاباتهم التي يتعرضون لها نتيجة أزمات نفسية وفشل في الحياة وعدم قدرة على التحقق، سواء في العمل أو على المستوى الأسري أو العاطفي.


وتقدم الرواية، عبر مقاطع سردية مكثفة، عدداً من الشخصيات الانتهازية المريضة بداء الانسحاق تجاه الآخر ما دامت تحقق مصالحها، وتضعها في مقابل أخرى ضعيفة فقيرة لكنها قادرة على المواجهة والرفض والخروج من مأزقها حال استشعرت خطراً داهماً. ومنذ البداية، يهيئ المؤلف أجواء عمله حتى يمكنه مد خط الأحداث على استقامتها، ليتلاقى المشعوذ علي الشريف، دارس الفلسفة الانتهازي الذي يزعم أنه صاحب طريقة صوفية وأنه قادر على شفاء الأمراض، مع زهرة، دارسة العلوم السياسية التي تسعى لمقابلته لينقذها من آلامها وأزمتها النفسية التي تعاني منها بسبب فشل علاقة الحب التي كانت تجمعها بزميل دراستها، وعدم تحقق تطلعاتها بالعمل في السلك الدبلوماسي.


ويصف الراوي خلال سطور الرواية الأولى بجمل قصيرة وعبارات مكثفة ملامح المكان الذي تتوجه زهرة إليه لملاقاة الدجال، وهو مكان يتسم بالغرابة والبدائية، رغم قربة من كورنيش النيل، حيث تخترق السيارة التي تقلها المدينة بطولها، لتنزل نهاية العمران والطريق المسفلت وسور الكورنيش، وتقودها قدماها عبر مدق ترابي طويل، مهدته عبر سنوات أقدام العابرين، من زائري الزاوية ومريدي «الشيخ»، تحفه الأراضي الزراعية من الجانبين، ولا يسمح فيه بمرور السيارات. وتطالع زهرة من بعيد أسوار عالية، تحيط بمساحة كبيرة من الأرض، ولا يوجد بها إلا باب حديدي مصمت، يسع بالكاد لدخول فرد واحد، وهناك تقف حائرة، تتنازعها أحاسيسُ متضاربة، ورغبة ملحة في العودة ووضع نهاية للمغامرة، فكل شيء حولها يوحي بالغموض والإثارة؛ الأسوار والمكان النائي الخالي من أي حركة، لا صوت لبشر، وسكون لا يقطعه غير نقيق ضفادع وأزيز حشرات وصوت الهواء يتخلل الحشائش والمزروعات المحيطة، وهناك خلف هذه الأسوار يوجد قصر الدجال «الشهواني» الذي تدور حوله الحكايات وتحيط به الأسرار والأحداث المريبة.


وبعد أن يمهد المؤلف الأحداث لحركة بطلته زهرة وهي في طريقها لزاوية الدجال علي الشريف، يتجه بالسرد صوب محاور متوازية متعارضة بين شخصيات ربما يظن القارئ أنها زائدة عن الأحداث ولا جدوى لوجودها، لكن سرعان ما يكتشف أن كل شخصية منها تتصل بالأخرى وتتلاقى معها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مثل الشيخ صفوان القادم من بلاد المغرب الذي يتابع شيخة عباس العمري، ويصير كظله، ثم علاقة علي الشريف طالب الفلسفة بصفوان الفاسي، وسعيه للالتصاق به، حتى يحصل منه على أسرار معارفه وعلومه، ثم دور زميله في الجامعة كامل اللبان في تعريفه به. ويتحدث الكاتب عن الطريقة التي أصبح بها الشريف مريداً، بدءاً من الاختلاء بالنفس من حين لآخر، حتى الحضرة والدرس الأسبوعي. ولكي يكشف الكاتب شخصية علي الشريف وانتهازيته، يتحدث عن المرحلة التي سبقت ذلك، حين كان يراقب زميل دراسته كامل اللبان، ويتنصت عليه من غرفته المجاورة له داخل مبني السكن الجامعي.


ويركز المؤلف وهو يسرد الأحداث على إبراز كثير من التناقضات في شخصيات أبطاله، ويضعهم بعضهم في مقابل بعض، حيث يتابع لحظات الخوف والشرود لدى سالمة، وهي من الشخصيات الفاعلة في الرواية. فبعد هروبها من بيت زوجها مدمن المخدرات، تذهب إلى حي الحسين وهي تشعر بالضياع، ثم يتبدل حالها عندما تلتقي رباب الدلالة إلى هدوء واطمئنان، وذلك بعد أن تتعرف عليها وتدعوها للإقامة معها في منزلها الذي تعيش فيه بمفردها بعد وفاة زوجها، وسفر ابنها للعمل بالخارج. وفي صباح اليوم التالي، تصحبها لحضور جلسة شيخها «صفوان» الذي يعرض عليها بعد علمه بقرب عودة ابن الدلالة أن تعيش معه، ويعلن أمام تلاميذه أنها صارت أختاً له. وهناك في بيت الشيخ، تدخل سالمة في علاقة عاطفية مع «علي الشريف» الذي لم يزل بعد تلميذاً يلهث وراء أسرار ومعارف سيده، يعاهده على الأمان فيما يخونه في قلب داره، يقبل يده ويطلب منه أن يجد له مسكناً بالقرب منه، وهو في الأصل لا يرغب سوى في تأمين واختصار المسافة بينه وبين محبوبته.


ويتتبع الكاتب سيرة كل شخصياته، فزهرة، طالبة العلوم السياسية التي تسعى للقاء الدجال، وتقف في مواجهته وتمنعه من اغتصابها، وتكون نهايته على يديها، تقابلها فاطمة الجاهلة التي تبدو بلا تاريخ أو ملامح تذكر، وقد ظهرت في الزاوية بصفتها مثالاً للامتثال والخضوع لعلي الدجال، أما سالمة التي انتهى بها المطاف لخيانة صفوان، والهروب من منزله مع علي، فتقابلها شخصية «لاله عيشة» المرأة التي ظلت على وفائها تبكي شيخها على حمدوش الذي أزمع الزواج منها، ومات قبل أن يتم له ما أراد.


وتقوم اللغة بدور بارز في تنمية الحدث وبناء الشخصيات. ففي المقاطع التي يتحدث فيها الشيخ صفوان أو كامل اللبان وعلى الشريف، وقبلهم المغربي عباس العمري، تتناثر الإشارات والعبارات الملغزة والتعبيرات الطلسمية التي تزخر بالشفرات. أما في أحاديث النساء اللواتي يتوافدن من وقت لآخر على ساحات الدرس، فتتغير اللغة، وقد تصل إلى حد السوقية، وهكذا تتوالي المشاهد ومقاطع الرواية، وتلتقي الشخصيات وتتمدد خطوط السرد وتتفاعل في نسيج يعتمد على تقنيه القطع والمونتاج السينمائي، ما يضفي على الأحداث مسحة من التشويق والجاذبية.

 

 

 

المصدر: الشرق الأوسط

08 نوفمبر, 2021 11:43:50 صباحا
0