تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
مها مبيضين توقع كتابها «أمهات في عالم رقمي»

لا أدعي أنني قرأت الشعر الجاهلي كله، والنبطي كذلك الأمر، لكن لدي معرفة أخالها جيدة نوعا ما عبر سنين خلت؛ ما جعلتني أضع يدي على مواطن متعددة من النقاط التي شكلت تشاركية ثقافية إن أجيز لنا التعبير خاصة أن الأدب قائم على التأثر والتأثير، إضافة إلى وجود قواسم مشتركة تخرج في كثير من الأحيان من إطار اللغة الواحدة، إلى إطار العالمية؛ لما بينها من قواسم مشتركة كما الحب والحزن والفرح وغيرها.

وهنا يقف القارئ عند العديد من تلك القواسم، لكن الذي يثير الجدل وربما لم يتطرق العديد من النقاد إليه حسب قراءتي هو إكرام الشعراء الفوارس لسيوفهم وأدواتهم الحربية، ولعل المتلقي أدرك أن عنترة العبسي على رأس قائمة الشعراء الفوارس، كيف لا؟! وهو الباحث عن حريته بكل بسالة واقتدار؛ حتى حمل كل بيت من أبيات معلقته الشهيرة طاقة كان يزج بها في كل لحظة على أهداب محبوبته الورقية التي اتخذها رمزا لتحطيم قيود العبودية التي رافقته وشكلت جزءا كبيرا من شخصيته البطولية، حتى جعلته أيضا يتذكرها وجراحه تنزف:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

مني وبيض الهند تقطر من دمي

وأنى لجريح أن يكون العشق مطلبه بين صليل السيوف ونقع المعركة؟ !

يقف عنترة معتزا بسيفه في معركة دامية؛ شكلت منعطفا في تاريخ حياته، حتى شفى غليله توسل الفرسان إليه:

ولقد شفى نفسي وأذهب غلها

قيل الفوارس ويك عنترة أقدم

ولأنَّه فارس مغوار يعرف عمق العلاقة بينه وبين سيفه، رأى أنه لزاما عليه أن يقبل سيفه ولا سيما أن الرجال كانت تختال وتتفاخر بأسيافها فكيف في أرض المعركة؟!

لقد جعل عنترة ارتباط حريته بالسيف، حيث قال:

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

لكنه لم يفعل!! ولو فعل لخرج عن سياق المألوف في الحرب؛ لأن قطف الرؤوس أهون من قطف الزهور في مواقف كهذا!! والشاهد هنا أن تلك العلاقة الحميمية بين السيف والفارس هي علاقة حياة وموت.

وفي الشعر النبطي نجد العديد من الصور التي انتقلت إلى الفرسان بأدوات مختلفة، لكنها ذاتها تلك الصور! ففي إحدى القصائد يذكر أحد الشعراء خوفه ورهبته من أن يعود خالي الوفاض من رحلة صيد، حيث حاور بندقيته:

يا بندقي وحش الخلا كيف أنا أرميه

يا بندقي متوحشن من قرونه

لترد البندقية عليه في حوار محمل بالصور كتلك التي نجدها في شعر شعراء الجاهلية، فتقول:

كنَّك تضمنيه وكعبيه تحنِّيه

لحت لك رعي الخلا من سنونه

لنجد أن صاحب البندقية يغدق عليها في حال أصابت صيدته بأن يخضب كعبها بشيء من دماء الصيد!! علما أن عنترة العبسي قد أنطق الفرس فيما ذكرناه سابقا، وشاعرنا قد أنطق بندقيته كذلك.

تلك هي مجموعة من القواسم المشتركة مثلنا عليها بنموذج واحد من شعر عنترة العبسي، علما أن الشعر العربي الجاهلي بحاجة إلى إعادة قراءة من جديد؛ لإيجاد تلك العلاقة الكامنة بينه وبين الشعر النبطي، ولا سيما أن هنالك بعض النقاد ممن يرى في الشعر النبطي رجعية، وإساءة إلى العربية الفصيحة؛ متجاهلا أن الأزجال الأندلسية هي كلام العامة والسوق، وقد أخذت مكانة نقدية بين الدراسات النقدية العربية وبعض الغربية.

 

 

 

المصدر: الدستور

02 ديسمبر, 2021 02:06:52 مساء
0