تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
فادي المواج الخضير تأملات نقدية في رواية «أنثى افتراضية

«أنثى افتراضية» من الروايات الصادرة عام 2016، وتقع الرواية في مئتين وتسعٍ وثمانين صفحة من القطع المتوسط، وقد قسمها الروائي إلى عناوين بلغت خمسة عشر عنواناً، غارة عاطفية، انتظار،مصادفة، لقاء، إكسسوارات الموت، في السجن، في الصداقة حياة، سيق لا يحتمل اثنين، ذكريات على قيد الهبوب، بوح، قناع، العرّاف، طاقة زهور، وهم، على قيد الأمل. واستشهد أمام كل عنوان من العناوين بعبارة لأحد الأدباء، فقبل العنوان الأول» غارة عاطفية « ذكر قول د. سوزان جيفرز «لماذا علينا معرفة الأحداث قبل أن نعيشها» وقول فان غوغ «يجب أن نحس أولاً بما نريد التعبير عنه».. وهكذا أقوال وكلمات جميلة زيّن بها الروائي بداية العناوين.

الرواية تتحدث عن الشخصية الرئيسية والمحورية في العمل «ربيع» وقد أختار له اسما افتراضيا آخر «زاهر» فهو لا يؤمن بهذا العالم الافتراضي « لم تكن مطمئناً إلى هذا العالم الافتراضي، كنت تعتقد أنه عالم لا يعرف الحقيقة، عالم مليء بالأقنعة، لذلك لنفسك اسم «زاهر» قناعاً. ص 24 وتبدأ مغامرات هذه الشخصية تجوب شوارع العالم الافتراضي بأسلوب راقٍ جميل. وفي أثناء تجواله ينثر بلغته العذبة وبلاغته في سبك الحروف والمعاني الكثير من درره، عن الصداقة والحب والحياة «الحب الذي نرقبه من النوافذ الموصدة أجمل من حب مشرع الأبواب» ص48، «من يختر الكهوف لا يرتجِ النور، وهل يرى الشمس إلا من فتح النوافذ ؟!» ص111

الرواية كغيرها من الفنون الأدبية، تواكب ما يستجد في عالمنا الكبير، وتقتنص ما يمس المجتمع لتضعه في قالبٍ جديد يثير شهية المتلقي، ولقد تفرّد الروائي د. فادي الموّاج الخضير في اختيار موضوع روايته، «أنثى افتراضية»، فالناس أصبحوا يعيشون في عالم افتراضي كبير، بل أصبح ما يميّز هذا العصر التطور التكنولوجي الذي لا يتوقف، بل يدوس كل ما ومن أمامه بوحشية.

وقد اختار الروائي د. فادي الخضير عنواناً يُدخل المتلقي إلى أجواء عمله الأدبي من أوسع الأبواب، فمفردة افتراضية يوحي للمتلقي بالعالم الافتراضي الذي نعيش به في وقتنا الحاضر من وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، فالروائي يبني روايته باللقاء مع أنثى عبر ما يسمى الفيس بوك، وهذه الأنثى من العالم الافتراضي، وبلغةٍ تقترب من الشعر كثيرا، بما تحمله من صور وتراكيب بلاغية، يبدأ الروائي فادي الخضير روايته.

ولكن الذي يشدّ انتباه المتلقي في هذا العمل الأدبي مجموعة من الأمور بدءاً من أسلوب السرد الذي اتبعه الروائي، إلى اللغة التي اقتربت كثيراً من الشعر في صورها البيانية، بالإضافة للموضوع الذي اختاره الروائي، والذي يتناسب مع ما يدور في عصرنا الحاضر.

وسوف نتوقف قليلاً عند بعض العناصر الفنية في هذا العمل الذي قام الروائي بسبكه بأسلوب أنفرد به دون غيره من الروائيين، فلم يقتصر الأسلوب على استخدام الأدوات الفنية المعروفة والمتداولة في كتابة الأعمال الأدبية، بل وجدنا الكاتب يشارك العين في قراءة النصوص، فهناك أكثر من نوع من أنواع الخطوط وظفها الروائي في عمله الأدبي، فالرواية لم تُكتب بنوع واحد من الخطوط، بل نرى الكاتب قد نوع في استعمال أكثر من نوع من الخطوط حتى تصل فكرته لدى المتلقي، فمحتوى الرواية كُتب بخط بنط 14، والمنولوج الداخلي كُتب أحياناً بخط أندلسي، والرسائل الواردة والصادرة من صندوق البريد كُتبت بخط غامق وهكذا.

الحبكة التي قامت عليها الرواية تكاد تُشعر المتلقي بأن الرواية جاءت لمن يمارسون تصفح مواقع التواصل الاجتماعية بكافة أشكالها، فقد ورد في الرواية أكثر من رمز، وأكثر من إشارة تشير إلى وسائل التواصل الاجتماعي وما يُستخدم لها من رموز، وهذا لم يقلل من إبداع الروائي ومن أهمية الرواية، فالرواية تقوم على هذه الحبكة بكل تفاصيلها، فالروائي استطاع الدخول إلى دهاليز العالم الافتراضي الذي أصبح الشغل الشاغل للكثيرين.

الثقافة التي يتمتع بها الروائي ظهرت بوضوح في ثنايا العمل، فالروائي قد أثبت في ثنايا روايته الكثير الكثير من الأسماء الأدبية التي لها شأن في الأدب والثقافة، فلم تخلو صفحة من صفحات الرواية إلا وكان هناك قولٌ لأديب أو أديبة، فالروائي ذو ثقافة واسعة أتاحت له المجال ليوظف التناص في مساحة واسعة من عمله الأدبي، فقد برزت مواضع عدة وظف الروائي فيها خاصية التناص، فقد تناص مع الأمثال الشعبية « فالذي في رأس الجمل في رأس الجمال « ص72 وتناص مع بعض العبارات من روايات وكتب كثيرة كقوله « وحمل معه « صهيل المسافات « استقل سيارة الأجرة، تغلب على رطوبة الورق الملتحم قبل أن يفتح الصفحة الرابعة والعشرين بعد المائة من رواية ليلى الأطرش، ألتهم مائدة حروفها مكتفياً بتحريك شفتيه «قالت في حياء : أنا أعرف كل شيء عنك.

- صحيح ؟ أنا لا أعرف كل شيء عن نفسي « ص77

وتناص مع الروائية والشاعرة المغربية فاتحة مرشيد « – على رأي فاتحة مرشيد : عندما يطيل الرجل الكلام مع امرأة، فهذا يعني أنها قد أعجبته « ص 80

وكما تناص مع كثير من الأدباء والشعراء أمل دنقل، ونزار قباني، وليلى الأخيلية، تناص أيضاً مع آيات من القرآن الكريم كقوله تعالى « رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين « من سورة الأنبياء الآية 89

وكما أولى الروائي اهتمامه بجماليات التناص، فقد جاءت لغة الروائي وأسلوبه في السرد يشد المتلقي، فقد نوّع في أساليب السرد المختلفة حتى لا يُشعر المتلقي بالفتور والملل، فاللغة التي كتب بها الروائي د. فادي الخضير عمله الأدبي كانت إحدى الأدوات الهامة، التي تشدّ المتلقي، فهي أداة من الأدوات التي لها مكانة عالية داخل الصراع الإبداعي كما يقول الناقد د. عبد الملك مرتاض «أساس الجمال في العمل الإبداعي من حيث هو، ومن ذلك الرواية التي ينهض تشكيلها على اللغة...، إنّه لم يبق للرواية شيء غير جمال لغتها وأناقة نسجها» (في نظرية الرواية، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت )، ومن الأمور التي ارتكزت عليها الرواية وكان لا بد من توظيفها الحوار، فالحوار كان من مستلزمات الرواية لطبيعة أحداث الرواية، فمحتوى الرواية يفرض على الروائي توظيف الحوار، فهناك رسائل ما بين طرفين، وهناك صناديق البريد الإلكترونية، فكان لا مناص من توظيف الحوار بما يتناسب وطبيعة الرواية، والحوار نمط من أنماط التعبير الفني وتكمن أهميته في ظل وجود شخصيات تتواصل ما بينها في العمل الأدبي، فالحوار يُعد عنصراً هاماً يشترك مع السرد والوصف، ويظهر براعة الروائي في رسم الشخصيات الروائية، ومن الحوار يستطيع المتلقي فهم أبعاد الشخصية المختلفة سواء كانت نفسية أو اجتماعية أو غيرها، وقد تنوّع الحوار في الرواية ما بين الداخلي والخارجي لسبك أحداث الرواية والتسريع في حل عقدتها.

وتظلّ رواية «أنثى افتراضية» رواية فيها الكثير من التجديد، سواء في موضوعها، أو أسلوب نسجها وإخراجها، ولغتها التي امتاز بها الروائي.

 

 

 

 

المصدر: الدستور

10 ديسمبر, 2021 09:53:07 صباحا
0