تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
قصص بورخيس كل تلك المعرفة لإثبات أن الخرافة تحكمنا!

في تقديمه للكتاب الذي يحتوي قصصه، أو بعضها، أطلق خورخي لويس بورخيس تعبير «تمارين نثرية» على ذلك النوع من أنواع كتابته. ولكي يؤكّد على قوله ذاك عمد إلى كشف مصادر نصّه، ذاك الذي يحرص كتّاب القصص والروايات على الإمعان في إخفائها وطمسها. ففي السطور الأولى لكل من القصص كان يشير إلى مصدر ما، واقعي وتاريخي أو حتى أدبي، استقى منه حكايته. وهو، لكي يكون كشفه مثبتا، ألحق بكل مجموعة من القصص هوامش يشير فيها إلى المراجع التي استند إليها.


في الظاهر، هذا يقرّب أعماله من أن تكون تأليفيّةً وليست طالعة من عمق الموهبة الصرف، لكنه، فيما هو يحرص على ذكر الأسماء والأمكنة والتواريخ، يطلق العنان لحريته في أن يصل إلى السقف الأكثر علوّا في اللامعقولية.


أتذكّر هنا ما جاء في قصته عن الرجل الذي اسمه إيرنيو فونس، الذي عزّزت قوة حافظته حادثةٌ تعرّض لها. كان قويّ الذاكرة إلى حدّ أن بورخيس نفسه، وكان ما يزال صبيا أيضا، سمع ما أجاب به فونس ذاك حين سأله أحدهم عن الساعة. «بقيت أربع دقائق للثامنة» أجاب دون أن يكون معصمه مقيّدا بساعة ذات عقارب، ودون أن ينظر إلى السماء. كان فونس ذاك، حتى قبل تلك الحادثة، يظلّ متابعا جريان التوقيت، عارفا به، ثانية بثانية وعلى مدار النهار والليل. ولكي يثبّت بورخيس واقعية قصته، الخرافية لا بدّ، أدمج سرده لها بذكره حالات من الذاكرة العبقرية المسجلة في التاريخ الطبيعي، كما في وقائع من عيشه هو: قورش مثلا، ملك الفرس، كان ينادي كلَّ واحد من جنوده باسمه؛ ميثراداتس يوباتور كان يدير العدالة بلسان اللغات الاثنتين والعشرين المتكلَّمة في امبراطوريته؛ وميترودوروس، كان يعلّم فن حفظ ِما يُسمع لمرّة واحدة فقط. لكن ما كان لبورخيس أن يكتب قصة عن ذاكرة فونس، لو لم تكن تفوق ما لدى هؤلاء الذين عدّدهم. ففونس هذا كان يحفظ في ذاكرته كل ما يراه أو يسمعه أو يحسّه. كان يستطيع أن يروي ما جرى في الأربع والعشرين ساعة بكامله، لكن كان ذلك سيستغرق منه أربعا وعشرين ساعة مقابِلة، طالما أنه لن يفوّت شيئأ مهما كان ضئيلا أو عديم الأهميّة. ولذلك «قرّر تقليص كل يوم من أيامه الماضية إلى حوالي سبعين ألف ذكرى، سيعرّفها بالأرقام لاحقاً».

 

 

 

 

 

المصدر: القدس العربي.

 

16 ديسمبر, 2021 01:22:47 مساء
0