عامر طهبوب يطرح سؤال الذاكرة الأردني
لعل الذاكرة هي الإرث الأغلى الذي يرثه الفلسطيني عن الأجداد والآباء، ويورثه الأبناء والأحفاد، ففي ظل قيام المحتل الاسرائيلي باحتلال الأرض وتزوير التاريخ وتغيير الجغرافيا، تغدو الذاكرة سلاحاً مشروعاً في مقاومة التزوير والتغيير، يلوذ بها المحتلّة أرضه بانتظار لحظة تاريخية يتم فيها تحرير الأرض، وتصويب التاريخ واستعادة الجغرافيا، وهي لا ريب آتية. سؤال الذاكرة هو ما تطرحه رواية «عائدة إلى أثينا» للروائي الأردني عامر طهبوب، الصادرة عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» وهي الثالثة للكاتب، بعد «في حضرة إبراهيم» 2018 و»أوراق هارون» 2019، الصادرتين عن المؤسسة نفسها. وطهبوب صحافي وكاتب، حرّر في أكثر من مطبوعة عربية، نشر المقال السياسي، كتب الزاوية اليومية، حاور شخصيات مهمة، وأدار تحرير بعض المطبوعات الخليجية، ما يعني أنه لا يكتب عند الدرجة صفر، ويأتي إلى الرواية من تجربة كتابية متنوّعة، ترخي ظلالها على المتن الروائي.
العنوان والمتن
في العنوان، ثمة إنسان معيّن هو (رلا) بطلة الرواية تقوم بالعودة إلى مكان محدّد هو أثينا، ما يشي بتلازم العلاقة بين أقنومي الإنسان والمكان، فلا وجدود لأحدهما بمعزل عن الآخر، حتى إذا ما تمّت العودة في زمان معيّن، يتم إدخال الأقنوم الثالث في هذه العلاقة، ما يجعل التلازم قائماً بين الأقانيم الثلاثة. في المتن، يصف (لقمان) البطل الآخر للرواية، عودة (رلا) من أبو ظبي إلى أثينا بالقول: «نزلت من السيارة إلى المطعم وهي تردّد على مسامعنا بصوت عال: «عائدة إلى أثينا، عائدة إلى أثينا» في إشارة إلى شوقها وحنينها لمدينة حضنتها منذ كانت في الثامنة عشرة من عمرها» ما يعني أن بين العائدة والمَعود إليها علاقة موغلة في القِدَم والشوق والحنين، فأثينا هي الحضن والوطن البديل المؤقّت، وبذلك، يتصادى العنوان والمتن في التعبير عن التلازم العلائقي بين الإنسان والمكان في زمان محدّد.
بين شاطئين
على المستوى النصي، تبدأ أحداث الرواية على شاطئ بحر إيجة اليوناني، في شهر آب/أغسطس، حيث نرى لقمان الرجل الفلسطيني الأصل يتسكّع بين مقهى راموس ومرفأ الصيادين، يروي مشاهداته اليونانية ويستعيد ذكرياته الفلسطينية، في محاولة منه للحصول على توازن مفقود بين هنا وهناك، على المستوى المكاني، وبين أمس واليوم، على المستوى الزماني. وتنتهي على شاطئ فولغميني، في أغسطس آخر، يتسكّع مع زوجته مايا وصديقته رلا، البطلة الأخرى في الرواية، يتصلون بعكا، ويرونها بالقلوب، ويُمنّون النفس بركوب البحر إليها لتحريرها، ذات يوم. وبين البداية والنهاية ثمة سلسلة من الأحداث المنتظمة في مسارات متعاقبة، متقاطعة، متزامنة، متماكنة، آيلة إلى مصائر مختلفة، تتشكّل منها الرواية.
على المستوى الحَدَثي، تتمحور الأحداث حول اللجوء الفلسطيني، في أجياله المختلفة، من منظور مختلف، ذلك أن نمط العيش الذي يعيشه الجيلان الثاني والثالث من اللاجئين يختلف عن ذاك الذي عاشه الجيل الأول، تبعاً للرواية. ففي حين يولد الأول في فلسطين ويلجأ إلى مخيم برج البراجنة (حسن ودعد) يولد الثاني في المخيم ويهاجر إلى أثينا طلباً للعلم أو العمل (رلا ولقمان) ويولد الثالث في أثينا ويعيش فيها (سامي). ومن الطبيعي أن يتفاوت مستوى العيش من مكان إلى آخر، فحياة البؤس التي يعرفها الجيل الأول في المخيم قبل هجرته إلى أبو ظبي تختلف عن حياة الرفاهية والترف التي يعيشها الجيل الثاني في أثينا، واستطراداً الجيل الثالث.
أجيال متعاقبة
على أن المفارق، في هذا السياق، هو أن الجذوة الفلسطينية لم يخبُ أوارها، على تعاقب الأجيال، وإذا بالجيل الثالث الذي لم يولد في فلسطين ولم يعش في المخيم لا يقلّ فلسطينيةً عن الجيلين الأول والثاني؛ فسامي المولود في أثينا يعرف مواقع القرى في عكا قرية قرية، ويحفظ الوقائع التاريخية عن ظهر قلب، ويخبر حبيبته اليونانية عنها، ويقضيان شطراً من شهر عسلهما في عكا، مستفيدين من جنسيتيهما اليونانية. وهذا ما تفعله والدته رلا، من قبله، فما أن تحصل على الجنسية اليونانية حتى تكون زيارتها الأولى إلى قريتي أبيها وأمها، الكابري وشبريخا، ذلك أن هويّتها الجديدة المكتسبة لم تنسها هويّتها الأصلية، وإذا كان تعلّق الجيل الأول من اللاجئين بالأرض التي هجّر منها أمراً طبيعياًّ، فإن تعلّق الأجيال الأخرى بها، وهي المولودة خارجها ولم يسبق لها أن عاشت فيها، مدعاة للعجب والاستغراب، ويطرح مسألة بناء الشخوص الروائية على المحك، غير أننا إذا ما علمنا أن الفلسطيني يحرص على إبقاء الذاكرة حية، ونقلها من جيل إلى آخر، لَبَطُلَ العجب والاستغراب. يقول سامي لحبيبته اليونانية إيليني: «لن نسمح بطمس معالمها في ذاكرتنا، وإن نجح عدونا بطمس معالمها جغرافياًّ على أرض الواقع، قضيتنا هي إبقاء الذاكرة حية».
حكايات وشهادات
انطلاقاً من هذا الحرص، يقوم لقمان بجمع الحكايات الفلسطينية حكاية حكاية، ويغتنم فرصة زيارته صديقه حسن في أبو ظبي ليلتقي بالحاج التسعيني محمود علي حسين، ويسمع منه تفاصيل الهجرة الفلسطينية وحكايات المخيم، ويقوم بزيارة ماريا النازحة أسرتها من عكا ويسمع منها حكاية الأسرة. وهو لا يجمع الحكايات إلاّ ليحكيها للآخرين، وهذا ما يفعله خلال عودته إلى أثينا حين يروي على لسان الصبية الفلسطينية الأصل مايا، التي ستصبح حبيبته وزوجته لاحقاً بعض هذه الحكايات، في رهان منه على الذاكرة سلاحاً في مواجهة الاحتلال. يقول لقمان لمايا: «عم بيشتغلوا تحوير وتزوير. علشان هيك ذاكرتنا لازم تظل صاحية، وزي ما الأرض بتتورّث، الذاكرة كمان بتتورث، واللهجة، والتراث، والهوية، وأسماء الشهداء». وانطلاقاً من الحرص نفسه، تلتقي رلا في عكا بالصياد أبي أدهم حسون والعم أبي محمود الحصري، وتلتقي في ترشيحا بالمرأة الثمانينية غوسطة دكور وعروس الجليل فاطمة، وتلتقي في عمان بالدكتور فهمي المعتصم ابن ترشيحا. وتصغي إلى حكاياتهم في إطار بناء الذاكرة الفلسطينية. على أن الذاكرة الفلسطينية في الرواية لا تقتصر على الحكايات والشهادات، بل تتعدّى ذلك إلى الذكريات المستعادة، والحوارات بين الشخوص، وأسماء المدن والقرى والحارات والأزقة والزواريب، والأدوات والثياب والألعاب والمأكولات والأعشاب، والأمثال الشعبية والمصطلحات التقنية، وغيرها ممّا يتم تداوله على ألسنة الشخوص المختلفة، وبذلك، تصبح «عائدة إلى أثينا» عودة إلى فلسطين بتاريخها وجغرافيتها وحضارتها.
صداقة وحب
في «عائدة إلى أثينا» يعكس التعالق بين الشخوص الروائية مجموعة من العلاقات الإنسانية الراقية بأبهى صورها، لاسيما علاقتي الصداقة والحب؛ أمّا الأولى فتتمظهر في علاقة لقمان بكل من حوله وترتقي إلى نوع من الأخوة حيناً والأبوة حيناً آخر، لذلك، يغدق صداقته ومحبته على الآخرين، ويتضامن معهم، ويمد يد المساعدة لهم، ويشعر بالمسؤولية عنهم، مستفيداً من ملاءة مالية يتمتع بها. وتتمظهر في علاقة لارا بصديقتها اليونانية فلورا التي سكنت عندها في بداية دراستها ووجدت فيها أماًّ ثانية لها. وأمّا الحب فيتمظهر في علاقة لقمان بمايا التي تصغره سناًّ وتجد فيه تعويضاً عن أبيها القتيل وأخيها الذي لم تنجبه أمها، ويجد فيها الحبيبة التي طال انتظارها. ويتمظهر في علاقة سامي، اليوناني المولد الفلسطيني الأصل، بإيليني، الفتاة اليونانية الجميلة، التي تضارعه في حب فلسطين وتأييد قضيتها، على سبيل المثال لا الحصر، ذلك أن في الرواية تمظهرات أخرى مختلفة لهاتين العلاقتين اللتين تتخطيان الأطر الوطنية والاجتماعية، إلى الإطار الإنساني الأرحب. غير أنه لا بدّ من الإشارة إلى أن البذخ الذي يعيشه لقمان ويغدقه على الآخرين، يطرح مدى ملاءمة المستوى المعيشي المتقدم للتضامن مع شعب ترزح نسبة كبيرة من أبنائه تحت خط الفقر، ويدعو إلى إعادة النظر في بناء الشخوص الروائية. وعلى كثرة الإيجابيات التي تشي بها أحداث الرواية، فإن العودة إلى فلسطين بجنسية أخرى تجعل العودة منتقصة وفردية، ولا تقدم حلاًّ عادلاً لمسألة اللجوء الفلسطيني.
الخطاب الروائي
يضع طهبوب روايته في عشرين وحدة سردية تتوزع على ثلاثة فصول بوتيرة سبع وحدات لكل من الفصلين الأول والثاني وست وحدات للثالث، ما يقيم توازناً بين الفصول الثلاثة. ويعهد بمهمة الروي إلى خمسة أصوات روائية بوتيرة سبع وحدات لرلا، ست وحدات للقمان، أربع وحدات لسامي، وحدتين لحسن، ووحدة واحدة لدعد، وهو توزيع يفتقر إلى التوازن، لكنه يتناقص بتناقص أهمية الشخصية، ومن الطبيعي أن يستأثر بطلا الرواية بالعدد الأكبر من الوحدات السردية. على أنه لكلِّ صوت سلكه المتقطّع في الشكل بأسلاك أخرى، المتصل في المضمون بتعلّقه بصاحب الصوت. ولعل القاسم المشترك بين جميع الأصوات أنها توازن بين الوقائع المعيشة في الملجأ والذكريات المستعادة من الوطن، وكثيراً ما يختل التوازن لمصلحة الأخيرة ما يعكس أهمية فلسطين لأبنائها اللاجئين، بأجيالهم المتعاقبة.
إلى ذلك، تتعدد المستويات اللغوية في «عائدة إلى أثينا» وتتنوّع؛ ففي حين يستخدم الكاتب المستوى الفصيح في السرد، نراه يستخدم المحكية الفلسطينية في الحوار الذي يشغل مساحات واسعة في النص، سواء في شكله المتكافئ بين طرفيه، أو حين يستأثر أحد الطرفين بالحكي ليروي على مسامع الآخر ما يحفظ من الحكاية الفلسطينية، والكاتب يعمل من خلال المستوى المحكي على حفظ الذاكرة الشفهية لاسيّما حين يحشد فيه هذا الكمّ الكبير من الأمثال الشعبية والتراكيب البسيطة والمصطلحات المتعلقة بمختلف شؤون العيش، وبذلك، تلعب اللغة دوراً كبيراً في حراسة ذاكرة مهدّدة بالزوال، ولا يبتعد الكاتب عن هذا السياق حين يكسر نمطية السرد بأغنية أو قصيدة أو رسالة أو خاطرة أو أغرودة، ما يشي بشعبية الفضاء الروائي، ويوهم بواقعيته، ويدخل في صلب حراسة التراث الشعبي بتعبيراته المختلفة. بمثل تلك الحكاية وهذا الخطاب، تتحول العودة إلى أثينا في العنوان إلى عودة إلى فلسطين في المتن، وهي عودة ميمونة تستحق المواكبة، ويثبت عامر طهبوب أن ثالثة رواياته هي الثابتة، على حد تعبير المثل الشعبي.
المصدر: القدس العربي