تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
العادي واللاعادي في «أثر الأشخاص العاديين»

ماذا يعني ان تكون عاديا؟ دعونا نبدأ بهذا السؤال، ثم علينا بالطبع أن نراعي بمثل هذه الوقفات، توضيح الفرع التداولي لهذه المفردة، والشائع عنها في المجتمع والعالم ككل، وذلك لأنها تختفي خلف أغلفة عديدة من التعاملات الشفاهية والتدوينية الخاطئة، حالها حال مفهوميّ البسيط والبساطة.


إن العاديّ صراحة يقابل البسيط من حيث المغالطة المطروحة ذاتها، ويساويها أيضا من الداخل الأعمق، عندما تعني ما تعنيه حقا. ويمكن أن نقرأ مثالا عن هذا العاديّ المتداول في الاستخدام، في ما ذهب إليه سيوران في عبارة ظهرت أمامي فجأة، وحفظتها في جهازي النقال منذ سنوات:


«يا لها من غصة، أن تكون عاديا، مجرد رجل بين الرجال» والظريف أن سيوران هنا، يستخدم (عاديا) في أثرها المستهلك والتداولي، محرضا وباحثا عن (اللا عادي) وهو بعكس ما سيرد لاحقا في الحديث عن هذا الموضوع في المجموعة الأولى للشاعر سراج محمد.


العاديُّ في هذه العنونة «أثر الأشخاص العاديين» هو ذاته البسيط، والاعتيادية هي ذاتها البساطة، بمعانيها المبحرة، والموغلة في مراحل التحول والانتهاء، ثم الخلاصات المريضة بأفعال الديمومة وأسماء الحفر على جدران القراءات. إذن ما العادي؟ ما البسيط؟ ما الاعتيادية؟ ما البساطة؟ يمكننا أن نفتتح مثل هذه النافذة بالقول: إن الشخص العادي هو شخص غير عادي مطلقا. أن تكون عاديا يعني، أنك ذو خبرة في الحياة وتفاصليها، مررت بالأوجاع حتى أصابها الجزع، وأخذت تقاوم خصالك البشرية الممقوتة، واحدة واحدة، ثم دخلت من بوابة الثقافة وتنشئتها، ومضيت تقشّر بسكاكين الوعي والنباهة والخبرة، كل قشور المجتمع المتراكمة، تلك المورثات السلوكية والجينات الثقافية، حتى وصلت إلى الصورة المضيئة الخبيئة تحت سطوة التداولي، سواء أكان مدوّنا أم شفاهيا.


فالبساطة غاية في التعقيد، مثلها مثل صعوبة أن تصبح عاديا في حياة ملؤها الأقنعة والثياب بمعناها المجازيّ، حتى لتظن بأنك عارٍ تسير بين جموع مطمئنة تظنّ بأنها مستورة.. عليك أن تجرب صعوبات الطريق كلها أو أغلبها، لتتحدث بعدها عن بساطةٍ ما تخص ذلك المسير.


البساطة، هذه اللفظة الأكثر تعرضا للاستخفاف والتداول المجانيّ، إذ يتم إلصاقها بكل الذي تسمح كينونته بالاختلاط والتمازج وتستجيب لمكوناتها العضوية. أن تكون بسيطا يعني أنك جربت أن تكون عجولا ومتعجرفا وفخورا ومغرورا ومختالا، وأدّبتك الحياة والأحداث والمواقف، فأحسنت تأديبك وتهذيبك وتشذيبك. البساطة طموح المفكر والفيلسوف والفنّان وغيرهم ممن لا يعلمون أنهم يطمحون إلى شيء يسمعونه ويرددونه يوميا، شيء يطغى عليه التكرار والعادية حتى لا يكاد يُرى. العادية في معنى من معانيها، تصبُّ في الوعظ القرآني، المتمثل خصوصا بلقمان الحكيم. فلو أننا تتبعنا تلك المواعظ، سنرى كيف أنه يريد رسم طريق العادي وشخصيته لابنه. الاعتيادية هي المقدرة على التجرد بأعلى سقف يمكن للعادي أن يصل إليه. البساطة هي النبيذ، والصعوبة هي العنب في طريقه ليصبح نبيذا، إذ أن « في الخمرِ معنى ليس في العنبِ» كما يقول المتنبي.


«أثر الأشخاص العاديين» هو مديح مضمر في واحد من أوجهه العديدة، مديح غير مقصود في واجهته العريضة طبعا، إنما حين ينكشف المكنون والدفين، يظهر لنا بوضوح أنه ما ينبغي أن يكون عليه الأثر. وبهذا فهو أثر يفاخر بنفسه ويعتد بها، حيث يسير رفقة، آثار الفلاسفة والحكماء والمتأملين، أثر يخبرنا حينما نحرّكه ونتحرك من خلاله بينما هو مفكك:
إنه «أثر الأشخاص اللاعاديين» وهذا الاعتداد والرهان يقع في جانب الكشف عن الحقيقة والصواب، فهناك رؤية تتأرجح بين الحاجة والواجب، في التصويب المفاهيمي، يتدرج من أكبر الأشياء وأضخمها إلى الأدق منها. هذا النوع من الآثار، بإمكانه استجلاء شعرية المتلاشي وإيقاظه والتقاطه من رغوة المحو، هذا غير أن الشاعر/ الفنان، يحتاج أن يجرب ذلك التلاشي ويسقط تحت سلطة المحو، كما يسقط اي عقل بشري في الحبوب المخدرة، كي يستطيع الكتابة بحرية فائقة عن المختفي، الذي ينسحب إلى منطقة الساكن والمضمر، أو يذَوّب تحت تأثير القوى المحيطة به، قوى المصكوكات الاجتماعية، وألاعيب النمذجة والتدجين، ومباضع التنميط المتفشية. والحديث هنا ليس رفيق المصادفة، فالعنونة تشي بالخطوط العريضة والدقيقة لمحتوى الكتاب، فهو يعدك من البداية، بأنك ستدخل إلى منطقة مزدحمة بالوعي والعاطفة والسخرية، حيث المؤدى القرائي: ضحكٌ، بكاء، أو «ضحك كالبكا» أو قد تصطدم بأحد النصوص فيجعلك تضحك وتبكي على طريقة الجوكر/ خواكين فينكس، وهي حالة مرضية عانت منها الشخصية، ولست أشير إلى أنها تسبب هذه الحالة المرضية، بقدر ما أود توضيح، أن هذه النوعية من النصوص بإمكانها أن تسبب مثل هذا الاشتباك الشعوري المتناقض في حالات الإمعان والغوص، ومن ثم السير والتجوال في الأدراج السفلى للنص.

 

إنه العنوان الذي يجعلك تقرأ الكتاب كاملا، قراءة أولية، ولاحقا، تمنحك النصوص مواثيق لتلك القراءة، لتنطلق من خلالها إلى قراءات أولية أيضا، لتجتمع كل تلك القراءات في نسيج الصورة الكلية للكتاب، والجزئية للنص، حيث يتحد الخارج بالداخل، والعالمي بالمحلي. كما يمنح العنوان انطباعا عن الفرادة والاختلاف، حينما يخبرنا بيقين تام، أن هذا الكتاب هو أثر الأشخاص العاديين، ولا يوجد غيره، وذلك لأن (العاديين) هنا، تقع في حدود شاسعة ومفتوحة على التعميم، تشمل العاديين ككل. وعند الوقوف عند مفردة (أثر) فإننا كقراء وبشكل تلقائي، نبحث عن المؤثر، فالعلاقة هنا أقرب إلى العلاقة بين الشخصية والدور، الأثر والمؤثر، ثم المتأثر من تلك العلاقة، الذي هو القارئ. وعملية البحث تلك، نتيجة متوقعة، ما دمنا نقف عند مفهوم الأثر وتطبيقاته المتمثلة بالنصوص، فالأثر يمنح القارئ شعورا حتميا بالماضي، والمضي لمسافة زمنية قد تطول وقد تقصر، حسب الأثر.

 

وبما أن تلك الآثار هي للأشخاص حصرا، فإن العنونة تحجب عن الأشياء الأخرى أن تأخذ مثل هذا الدور، أو أن تنسحب إلى فضاء الأنسنة، لتصبح وظيفتها الأساسية هي وظيفتها النهائية أيضا في تدعيم تلك الآثار وبنائها، بل تصبح مادة البناء الأولية في تشييد أثر الشخص العادي/النص.

ربما لو قيل على سبيل الفرض: أثر الشيء العادي، أو أثر الأشياء العادية، عندها ستصبح الصيغة أكثر سعة وشمولا، لكنها بلا شك ستفقد خصوصية الإشارة إلى شيء بعينه، كما أنها ستخسر وقعها الجمالي، وإمكانية الحفر في ما وراء الفضاء التداولي، الذي هو في الحقيقة الأسُّ الجمالي والدلالي للعنوان. كما تقف فلسفة العنونة هنا بالضد من مبدأ العادية في فلسفة العلوم، التي ترى أن «لا شيء مميز في الأرض ولا في الإنسان».


إذن هذا الكتاب ابتداء من عتباته الأولى، وصولا إلى النصوص، في جانبه الصارخ، هو تطبيق شعريٌّ لرؤية فلسفية قائمة على فكرة التجرد والتخلي والتقشير وما يرافقها من آليات ممثلة بالتهكم والسخرية والتلاشي، هي عملية تعرية متعمدة مفتوحة على أقصاها، يمارسها الشاعر على ذاته أولا، ثم يوجهها أو توجهه كنتيجة محسومة إلى الخارج ثانيا. هذه الفاعلية تنقّب عن المناطق الصفرية وما تحتها من جذور، كي تمنح نفسها والآخر، الصورة الواضحة للعالم وأشيائه. ولهذا لن يستغرب القارئ الخطاب الاحتجاجي الصارخ في الكتاب، ولا الأسلوب الساخر الهازئ من الحياة ومركزياتها المتآكلة، الحياة التي صممها الآخرون، وما زلنا مسجونين في زنزانات أفكارهم وأقوالهم. ولذا عندما نقول: أثر الأشخاص العاديين. فإننا نفترض وجود حياة أخرى، حياة لا توازي الحياة التي نعرفها، لكنها تتبرعم وتنمو في سبيل المقاومة، حياة تكشف لنا عن سرديات مكنونة في اللغة التي نعرفها ذاتها، لكنها تدلُّ على جهاتٍ وتوجهات مفعمة بالاختباء، ولعلّها تستمد طاقتها من هذا الركل المتواصل الذي تمارسه الحياة الرسمية، كي تجعلها موجودة، كحياة لا رسمية، لها شخوصها وسردياتها اللاعادية.


لم أستعن بنصوص المجموعة في طرحي هذا، كمحاولة مني للإشارة إلى مدى أهمية العنوان، ذلك العنوان الذي يشتغل كمولّد دِلالي وإشاري نشيط ضمن إطار المعطيات المترسمة، وكيف يمكن لتلك الشمولية التي تنطوي عليها العنونة، أن تعمل عمل القبطان في توجيه دفة القراءة توجيها لا يعاني الفواصل والانقطاعات، وبهذا أنبّه من خلال ما أوردته إلى كل العناوين التي جاءت بمحمولات لافتة وغرائبية، ولها صياغة رصينة وجاذبة، لكنها ضيقةُ المدى ولا تغطي إلا القليل عند البعض، أو قد لا تغطّي إطلاقا لدى آخرين أي معنى من معاني نصوص الكتاب أو تلمّح له سوى ما يعنيه العنوان لذاته أو لنصّه الذي استخرج منه.


يتألف الكتاب من 101 صفحة وعدد النصوص فيها هو 44 نصا. صدر عن منشورات تأويل، 2021

 

 

 

المصدر: القدس العربية 

30 ديسمبر, 2021 03:11:41 مساء
0