تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
محمد البريكي التأمل والهم الوطني في ديوان «الليل سيترك باب المقهى»

من عتبة الغلاف الذي يمتد بصريا على خلفية بيضاء بكلمة الليل بالخط الأزرق ودلالاته، وتكملة العنوان باللون الأسود وموحياته، يؤنسن الشاعر محمد البريكي «الليل»، يضخ فيه الحياة -إنسانا يتخذ القرار بمغادرة المقهى تاركا للمتلقي تأويل أسباب هذه الهجرة الطوعية وربما القسرية.
تفتح قصائد الديوان أبوابها على تعددية التأويل، تغرف من الشعر مجازه، وتغوص في أعماق الحياة، معلنة عن قلقها الوجودي واحتجاجها، بتشفير المفردة التي تنضح غربة ووجعا، إيمانا بأن الشعر إحساس يخاطب العاطغة، وأن من يرتكب هذه الجنحة، يكن أكثر إدراكا وأعمق إحساسا بالحياة، يربط الفكر بالحقيقة، و يشتبك مع الفيلسوف فيوصل مضامينه عبر الفاظ تكتسي تأنق الصياغة ورشاقة البيان، وتلبس حرير المعنى، بتلقائية، بعيدة عن الافتعال، تنتقل فيه قصائد الديوان من غرض إلى غرض ومن إحساس لآخر، تبعا للموجات النفسية للمبدع.
يستوقف المتلقي لفضاءات هذا الديوان تخطيط الصفحات بصريا، تمثّل في تكرار العنوان الرئيس في كل صفحة، يتوسط خطين يوحيان بالموج ك، أنما يبرمج الكلمات على حبل الجمال، وكأن الخط المتعرج سيف للبحر، وقد يرى فيها المدقق جزءا من ستارة مسرح يُطل الليل من خلالها على شباك الحياة التي قدّم الشاعر ديوانه لها لتكون بابا للعروج إلى سماوات القصيدة.
ها هو في قصيدة الديوان الأولى «ضفاف الحياة» يشتبك مع المعنى الوجودي الفلسفي في تقرير حقيقة الإنسان :
مثل ريش يسير سهوا لضفة
يعبر الناس في الحياة بخفة
وكخط على الرمال غريب
تقصم الريح حين تلقاه نصفه
هكذا عقرب الزمان سيمضي
مضغة كان.. والنهاية رجفة.ص 9
وكانت قفلة المقطع الشعري تجسيدا لحقيقة الإنسان الذي مضى بين ضفة ورجفة، وتتجلى الصورة الإبداعية في مقطع القصيدة الثاني، كاشفا العمق الفلسفي والجدل الوجودي بعمق، بترقيص إيقاعي يأخذ بذائقة القارىء :
حطب الحلم/العمر/فوق نار الأماني
في فم الريح سوف يصعد رشفه
خلق العمر حين جاء إلينا
ليرى في الفناء والعيش ضعفه.ص 10
ويتابع غنائيته وإنزياحاته وصوره البيانية في قصيدة «لا سماء فوق هذا الرأس» والقفلة وأنسنة الجماد في قصيدة «غدر الطواحين» ويفرد للرثاء قصيدة «أحب البلاد» لروح الشاعر محمد الصغير أولا محمد، مؤكدا على إحساسه بالزمن «لديّ القليل من الوقت» معبرا عن روحه وضميره الوطني في حب الوطن «أحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد».
في قصيدته «احتفاء بما تبقى»يخاطب الشاعر الليل/ رمزا للمعاناة وتعثر وتبدد الأحلام:
أيها الليل
يامن وقفت على درب أحلامنا
مثل غول يطاردنا في الحياة
ألا تكتفي؟ص39
لكن لا يأس مع الأمل، بفجر يبدد العتمة، وللخروج من وطأة تبدد الحلم يعود للماضي، حنينا يعوّض فقدنا للطفولة، بئر النقاء :
فعد للـأغاريد، خذنا سراعا بآلامنا
كي نلوذ بما قد تبقى من الحلم
في رحم الأمهات..
إدانة لويلات الحرب وهربا من مآسيها، مُعبّرا عن حيرة الإنسان المعاصر وضياعه، بتوظيف تراثي موفق :
إن الذين إذا مسهم طائف
والشياطين تطرق أفكاره من جميع الجهات
كيف نهرب من قبضة الأشقياء
وهذي العقول التي فُخخت بالحروب
تضج دكاكينها باللُعب ص40
فاختلت الموازين والمفاهيم بعد أن صار قابيل يبني له سلما للسحاب، والبحر محمّل بالأبابيل، والأرض تلهث خوفا.
يبرز شجر «الغاف « النادر، رمز الصمود، أمام صعوبة طقس الصحراء وقدرته على التعايش في مناخاتها، ليعود الأمل مطلبا لا يمكن تجاهله « وأنا أصنع للصبح احتفالا «في قصيدة «غيمة الأنفاس» ص55، التي تكتسي بالغنائية :
حدّقي يا شمس في هذا الفتى...
حدقي يا شمس فالحزن تعالى
ويوظف فيها الإنزياح جليا «يهطل الفجر على شباك روحي».
«عائلة للطريق»، القصيدة التي تفتح على أماكن غير محددة الملامح، لكنها تُحيل لما تعتمر به الذاكرة وينبض به الوجدان من مرابع الطفولة، بعد أن صار الإنسان غريبا: ص 59.
أقول أبي أيها الدرب..
أحبك حينا لإنك توصلني للبيوت
التي كان للطين عطر ورائحة في أزقتها
وحنين الشواطىء كان يطل على بابها..
هذا النداء نتيجة شعوره بالوحدة الذي يحاصره، وللعمر الغارب الذي يتلاشى، وتتواصل أسئلة الوجود التي تطرق أبواب العقل :
..إني بلا زورق، وحدي يصارعني الموج والموج ليس الصديق، لماذا أذا أيها الطين تتركني للطريق؟
لماذا على الشعر أن يطفئ الجمر، ثم على صاحب الشعر أن يكتوي بالحريق؟
وتخزه دبابس الوحدة عندما لا يجد أي رفيق، وهو الغريب في المدينة، يكتوي بجمر البعد والفوضى، «يُعلّم ظل النخيل المبعثر».
قصيدة «العابرون»ص 65، بكائية التحسر على ماض تليد، معجونة بالنفس العروبي الأصيل، «على مهل حين تسقطُ يا دمع..فالليل لا يعرف الآن من هم على النهر، لهذا يتوجه بالسؤال معبّرا عن لهفته وأمله بعودة التاريخ المشرق..هل حقا تصدق أن النبوءة سوف تعود؟ وهل سوف نزرع نخلا شبيها بنخل الرصافة ؟هل سيعود لقلب الحزينة ما سلبته القذائف والقاذفات وهل سيعود البشير ليلقي عليها قميصا؟ إشارة للآية الكريمة في سورة يوسف، وتلويحا بالهم العربي :وهل سوف تشهد عصرا ترى فيه بشّار والمتنبي، ومن قال عن فتح عمورية، ونزور قبر الغريب في «أغمات»، ونستأنس بقصور الأفذاذ في اشبيلية وغرناطة، ونسدل الستار على ما لقينا في سبيل عروبتنا من تعب؟
هل سيعود «الموريسكي»قائلا يا أم عدت أخيرا، وهل سيقول الشآمي نخل الرصافة لي، ليس للقادمين إلى حينا بالشقاق ؟
يتبدى قلق المبدع الدائم بوضوح في قصيدة «وردة في الطريق» ص 75 وفيها تتجلى النزعة الدرامية التي تحيلنا لنص المونودراما : أنا من أنا يا أنا، من أنا ؟
ثم ينتقل من الخاص للعام، فيفيض بهمّ المجموع :..نحن، كتابا، مفكرين، موظفين، وكل فئات المجتمع، رجونا بأن نستظل بسقف الأمان، الأمان الذي قد يكون نفسيا أو اقتصاديا أو سياسيا، وقد يكون الجميع، فما ظلنا، وبرغم كل ذلك من إحباط، لم نفقد الأمل وما خاننا حدسنا، ليظل الحلم قائما لا يزول ولا يُمحى :أنا من أنا لا يهم..سأمضي على الريح أغزلها موطنا.
ويعود الشاعر للأب صنو الأمل، مفتخرا، بالملاذ : أبي، يا أناي الذي لا يغيب، إليّ بفلك لمحو الفنا..، هذا الأب، رمز الماضي، وصفحات العز، وفي نفس الوقت، ضمير الخوف على الآتي: لنرسو على جبل السابقين وننجو معا من غياب دنا، كأنما يستظهر الشاعر نبؤة القادم، هذا الشاعر الذي يفيض وجعا وإحساسا بمفردات الكون : تُلوّعني وردة في الطريق وترقص روحي مع الميجنا.
يتحامل الشاعر على مخاوفه وقلقه، معوضا ذلك بتنامي شعوره بذاته وكينونته، فيرسم بتناص قرآني فريد ثقته بنفسه : وإن كنت في البدو عني بعيدا، أصارع في الجب ذئب العنا، فمن ذا يرد القميص إليك لنجمع آمالنا حولنا، أنا لست مكترثا بالسفوح ومن سرقوا خلسة نبعنا.
مما يُلفت أيضا في ديون «الليل سيترك المقهى»توظيف الصورة البيانية والإنزياح والتناص مع القرآن الكريم، قلق صورة المدينة، ورسوخ القرية في وعي الشاعر، أنسنة غير العاقل، الرؤية الإنسانية لمفردات الكون، استحضار التراث والتاريخ في الأندلس، واستنطاق الشخصيات، ثم المسحة الوجودية المغلفة بالحكمة:
إلى الدنيا ابن آدم سوف يأتي
غريبا ثم يتركها فقيرا..
للشاعر محمد البريكي في الشعر الفصيح أكثر من ديوان سبق «الليل سيترك باب المقهى» هي «بيت آيل للسقوط»، «بدأت مع البحر» «عكاز الريح « إضافة لمجموعة من الدواوين في الشعر النبطي.
صدر الديون عن دار موزاييك للنشر في تركيا، طبعة أولى 2021 ويقع في 136 صفحة.

 

 

 

المصدر: الدستور

02 يناير, 2022 11:34:58 صباحا
0