تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
خالد أبو خالد في شعره التفاعلي

غيب الموت قبيل أيام الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد الذي كان قد ولد في سيلة الظهر من أعمال محافظة جنين سنة 1937 في أسرة عرفت بالنضال ضد الصهيونية أبا عن جد. فوالده استشهد فيمن استشهد من ثوار فلسطين عام 1938 في الثورة الموسومة باسم ثورة القسام وكان عمره عاما واحدا. فنشأ يتيما إلا أن نشأته هذه اسهمت فيها عوامل كثيرة منها اضطراره للسفر يافعا للعمل في أمكنة شتى منها الكويت. ويبدو أنه تعرف فيها على بعض المغتربين الذي أسسوا حركة فتح، فكان من أوائل الذين انضموا إليها، وبقي محاربا في صفوف المقاومة مناضلا يتنقل من خندق لآخر، ولكنه ابتعد عن الحركة بعد عام 1982 ورحيل المقاومة المأسوي من لبنان على إثر التوافقات التي صمَّمها سيء الذكر فيليب حبيب. وانطبعت علاقته بها بالفتور، ثم اتسعت الشقة بينهما بعد اتفاق أوسلو1993.

وأيا ما يكن الأمر فإن الذي يعنينا في هذا المقال التذكاري الموجز هو شعره. وكان بيت الشعرفي رام الله قد أصدر في العام 2008 جامع أشعاره الكاملة في ثلاثة أجزاء مجلدة بعنوان [العودسا الفلسطينية] يضم دواوينه التي صدرت تباعا بدءا من الرحيل باتجاه العودة 1970وقصائد منقوشة على مسلة الأشرفية(مشترك) 1971 وتغريبة خالد أبو خالد 1972 والجدل في منتصف الليل 1973 وأغنية حب عربية لهانوي 1973 وشاهرًا سلاسلي أجيء 1974 وبيسان في الرماد 1978 وأسميك بحرًا أسمي يدي الرمل 1991 ودمي نخيل للنخيل 1994 وفرس لكنعان الفتى 1995 ورمح غرناطة، ومعلقة على جدران مخيم جنين 2002 .

ومن يتصفح الأعمال الشعرية وفقا لتواريخ القصائد يلاحظ من الانطباع الأول أن الشاعر لا موضوع لديه، ولا غرض، في شعره سوى التحريض، والنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي. وانطباع آخر يلاحظ، وهو اتكاء الشاعر (ابو خالد) على مرجعيات ثقافية متعددة أكثرها حضورا هو التراث الشعبي الفلسطيني (الفولكلوري) فضلا عن التراث العربي والعالمي ولعل في اختياره كلمة العودسا عنوانا لجامع أشعاره ما يدل على هذا. فالكلمة الأولى منحوته من الأودسا الإغريقية والعودة التي لها في في نفوس الفلسطينين ما لها من وقع. وما لها من حضور في الأغاني الشعبية والفنون القولية المختلفة. وها هو في إحدى قصائده المبكرة يحيلنا إلى حكاية شعبية يعدد فيها الحكواتي ما يعترض المناضل من صعوبات تحول بينه وبين الوصول إلى هدفه النضالي وهو العودة، بيد أن هذا التعداد ليس تعدادا مباشرا وإنما عمد فيه لحكاية وظفها توظيفا فعالا في النسق الشعري، وأحالها إلى ضرب من الحكايات الغنائية الرومانسية :

مشقة هو العبور

فأول الوديان مربضُ التنّين

يليه جحر حية وعمرها ألفان

وثالث محط كل ليل

ورابع يعج بالغيلان

ثم يواصل الشاعر تعداد هذه المخاطر التي لا بد أن يواجهها البطل قبل أن يصل إلى مبتغاه وهو:

وفي ذرى أطرافه جبال مغناطيس

تجرد الذي نجا

من سيفه ودرعه وخوذته

فهو مع اجتيازه جل هاتيك المخاطر متغلبًا على التنين، وعلى الأفعى، والغيلان، والمفاوز، وحلكة الليل البهيم الذي تهاجمه فيه النسور والغربان، لا يستطيع النجاة. وإن نجا ينجو بجسمه حسب بعد أن يسلبه من يترصدونه السيف والدرع والخوذة، وكل ما يمكنه أن يدافع به عن حياته المهددة. وهذه الحكاية بلا ريب معروفة لدى القارئ فهي من ثقافته الشعبية. وقد ضمن قصيدته بعضها في مسعى منه وحرص على تحقيق التواصل الحميم بجمهوره. فالشعر عنده نص تفاعلي لا تلقيني. فهو يعبر عن موقفه الصدامي بألفاظ وكلمات مألوفة معروفة صاغها الوجدان الشعبي. وتداولته ألسنة القراء في ما مضى من الزمان. ولا يفتأ خالد أبو خالد يبحث عن الكلمات التي تنم على ارتباط الشاعر بالأرض والإنسان الذي يحيا على هذه الأرض. فيذكر الدار بما تعنيه من ألفة وذكريات. وشجرة الزيتون بما توحي به من ظلال وعطاء. والخضرة بما تحمله هذه الكلمة من دلالات الربيع والخصب والانبعاث من الأرض اليباب:

ترى هل يرجع الأحباب

وهل نحيا للقياكم

على زيتونة فيالدار مخضرة

فاجتماع الزيتون، والدار، والخضرة، يضعنا وجها لوجه أمام صورة الفلاح الذي تغوص قدماه في الطين، وبيديه يتلمس جذع شجرة الزيتون، ويبني بهما الدار، وتشرق عيناه بالحنين لخضرة المروج في الربيع. ومثل هذا ما نجده يتكرر في قصيدة له أخرى يذكر فيها الراعي وغنمه والدالية. موظفا حكاية شعبية هي حكاية (جبينة) التي تجاوز بها ما هو معروف عنها إلى ما هو غير معروف، بربطه الحكاية بمأساة اللاجئة، والتشرد، والغربة، والتبرم من عذابات النفي. يقول أحد اللاجئين مستشهدًا بأبيات محددة من ذاكرة لشعر الشعبي :

بكيت أمس عند قرنة المغيب

والبارحة يا عقاب

حين القمر غاب

شفت الثريا ميلت للمغيب

أنكرت مولدي

في هذا النص أزالت القصيدة ما كان بينها وبين الشعر الشعبي من حواجز وفروق. وامتزجت لغة الكتابة بلغة الغناء العامي. مما يقرب القصيدة من القراء بمن فيهم أولئك الذين لم يألفوا قراءة الشعر الفصيح. ويقول في قصيدة مبكرة بعنوان الليالي :

ويا ميجنا

زهر البنفسج يا ربيع بلادنا

ويا ميجنا

الريح الشمالي

عدا على جبيني

والحمام المرتكي على السيف

والليل الهني

فارد علي جناحو

وهي قصيدة غارقة في بساطة قد يعترض عليها بعض الشعراء، ونقدة الشعر، وبعض الأكاديميين من محبي العربية الفصحى، ومع ذلك لا يصغي الشاعر لمثل هذا الاعتراض؛ كونه يسعى لشحذ الصلة بينه وبين جمهوره، وتعميق الآصرة مع قراء شعره. فاللهجة الدارجة التي تنظم منها الأغاني، والحكايات، هي الأخرى عربية، والفصاحة شيء نسبي فما يفلح في تحقيق التفاعل الحميم بين الشاعر وجمهوره أفصح من لغة النحاة، والصرفيين، وأرباب العلم بالاشتقاق. وبسبب هذه النظرة، التي يرنو بها أبو خالد لمهمة الشعر، شاع في قصائده هذا اللون من التفاعل. يقول في قصيدة تعبر عن اشواق المغتربين للوطن:

يا راكبين البحر

والليل والغربة

يا عاشقين التعب والموت والفرحة

مدوا ايديكم ع العبد

إحنا بنستنى

والصبر صابر معانا

والشوق والحنا

والجوع مص زغارنا

وزوادته منا

أما تنوُّع المرجعيات في شعره، فأوضح من أن يخفى، فإلى جانب الحكايات الشعبية والأغاني، تعج قصائده بالأمثال المتداولة، والشوارد، والكنايات السائرة، فبإشارة إلى وضع الطفل الفلسطيني اللاجئ في أحد المخيمات، يتذكر المثل الذي يتسق مع الماساة:

طفل جفاه الصوت ودّعني

ما قال حتى: الدار دار أبونا

وأجوا الغُرُبْ يطحونا

وأخوه في حضني

على شفتيّ مرثية الشهداء

يا صمتي.

عدا عن الأمثال، والأغاني، والحكايات، لا تخلو قصائده من إيحاءاتٍ، وظلال تعيد القارئ لبعض المأثورات العربية، كتغريبة بني هلال، وأبي زيد الهلالي، وذياب بن غانم، وزرقاء اليمامة، التي كذبها قومها حين أخبرتهم بالغزو، فخسروا حربهم مع العدو:

قلل المغتي والأسى كاويه

زرقاء سابت وانسبت

وذياب في بحر الدما خلاها

يا حيف يا بو زيد ما كان العشم

ترمي عباتك والأصيلة

مشلوحة ع عتابها

جمع الشاعر في هذه القصيدة بين زرقاء اليمامة وذياب بن غانم في إيحاءات تلقي بالأضواء على تخاذل القيادات التقليدية، وتفريطها بفلسطين، وعدم تصديها للعدو. وتتراءى لنا جدلية العلاقة بين الشاعر الحديث (أبو خالد)والتراث القديم أوضح مما هي لدى أي شاعر آخر. فهي أظهرُ، وأبينُ، من أن تخفى على أحد، أو ينكرها منتقد. ففي قصيدة ( شهرزاد في الليلة الثانية بعد الألف) يتخذ من الساردة قناعًا يفضي – من ورائه- بموقفه من انتفاضة الشعب الفلسطيني التي شملت الأرض والوطن من شماله إلى الجنوب:

كان يا ما كان

يا مولاي يا ملكي السعيد

هرمٌ يقوم وهكذا الفقراء ينتفضون

يا مولاي أدركنا الصباح

ويُطبعُ المنشور

يرحل من يدي ياقوت – سريا

فتلقفه العيون

وتومئ الأيدي بالتحية

عسقلان

جمع أبو خالد في هذه القصيدة كلا من شهرزاد، والملك شهريار، وياقوت الذي يطبع المنشور سرًا، والأيدي التي تلوح، وتحيي انتفاضة عسقلان. وهذا الشاهد إلى جانب شواهد أخرى كثيرة تعزز ما ذكرناه في مستهل هذا المقال عن التزامه بالنضال، والتحريض، والثورة، مثلما يعزز ما قلناه لاحقا عن أن قصيدته تشبه إطارًا تتلاقى داخله وتتفاعل صور شتى من ملفوظات شعبية، وحكايات غنائية، ونماذج مقتبسة من التراث العربي التاريخي، ومن الثقافة الإغريقية، ومن الأدب العربي. وهذا كله يجعل من شعره مزيجًا ثقافيًا جميلا كاللوحة التي تفيض فيها الألوان بعضها على بعض، في تساوق بصري يبهر الأذواق، جاعلا من شعره دواءً شافيًا لجراح المشردين في الآفاق.

 


 

المصدر: الدستور

05 يناير, 2022 01:03:10 مساء
0