تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
في العلاقة بين الشعر والفلسفة حول كتابي «درويش على تخوم الفلسفة»

 يحلو لي بدءاً أن أقول إنني من المؤمنين بالنقد ونقد النقد، وأشكر قراءة الزميل العزيز الدكتور إبراهيم خليل عن كتابي «درويش على تخوم الفلسفة: أسئلة الفلسفة في شعر درويش» وأرغب في توضيح، واستحضار بعض ما غيَّبته القراءة.

 

افتتح الدكتور إبراهيم مقالته باستعراض لأسماء من كتبوا عن درويش ثم أثنى فقط على باحثة واحدة دون الآخرين، وهو نوع من التمييز في القراءة. وأخطأ حين عدَّ مجموعة «نقوش على جدارية درويش» دراسة علمية عن درويش، وهي مجموعة شعرية للمتوكل طه. ولو أنه صرف جهده لدراسة فصول الكتاب فصلاً فصلاً لكان أجدى للدراسة النقدية. وحين ذهب لقراءة الكتاب أخذ يجتزئ العبارات من سياقاتها المعرفية، ناسياً أن أول درس تعلّمناه هو «لا شيء يمكن الحكم عليه خارج سياقه!».

 

إن نقد النقد ليس عملية اختيار واقتطاع من العمل المنقود، بل هو عملية فكرية ومعرفية تتمثل المنقود في مصادره ومراجعه ومظانه، وتقوم بموازاتها فكريا؛ بحيث يظهر في عمق المناقشة خلفيتان معرفيتان تتحاوران أو تتساجلان، قد تتفوق إحداهما على الأخرى أو قد تتساويان في المعرفة، وقد تهبط واحدة عن الأخرى. ولكن ما رأيناه هو محاولة للتعالم وإظهار التفوق على حساب المعرفة.

 

وأول اعتراض سجَّله على العنوان الفرعي (أسئلة الفلسفة في شعر درويش) مقترحاً أن استعمال لفظة «مشكلة» أو «إشكاليه» أفضل من «سؤال» بحجة أنها أكثر دقة وانسجاماً مع طبيعة اللغة العربية! وهو قول مثير للسخرية؛إذ ثمة فرق أولاً بين المشكلة التي يمكن أن نوجد لها حلاً، والإشكالية التي قد تعصى على الحل! وثمة فرق معرفي بين السؤال والمشكلة! فالسؤال حين يمارسه الفيلسوف أو الشاعر لا ينتظر جواباً كما رأى، فهو إنما يمارس فعل الوجود، بل فعل إثبات الوجود، والسؤال بطبيعته إشكالي ينفتح على التسآل، ويهدف إلى المعرفة بمنهج عقلي تأملي، ويعبر عن حَيْرة الإنسان تجاه الوجود،وهكذا هي أسئلة درويش، وليست «مشكلة» درويش، ولا «إشكاليته»! والسؤال منذ بدء خلق آدم وعرضه على الملائكة هو محور المعرفة، وهو النسق الوجودي،وهو الوظيفة الأزلية للعقل الباحث عن الحقيقة، وبدء رحلة المعرفة من الجنة؛ إذ علَّم الله آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة قائلاً: (أنبئوني بأسماء هؤلاء)، ثم أنزله إلى الأرض ليبدأ رحلة المعرفة ويقع على لذة الاكتشاف، ويمحِّص خياراته وصولاَ إلى قراءة ما وراء الأسماء»ما وراء المادة/ الفيزيقا»؛ أي قراءة الميتافيزيقا.ولعل ما يثير القارئ تفسيره للسؤال بمعزل عن سياقه المعرفي واستشهاده بأبيات شعرية يأتي السؤال فيها بمعاني طلب «الحاجة» أو «الدعاء» وهما أبعد ما يكون عن سؤال الفلسفة وسؤال الشعر. ومرة أخرى أعيد السؤال: كيف يمكن التوفيق بين الخطاب الفلسفي وهو خطاب عقلاني منطقي/برهاني، والخطاب الشعري، الذي يتخذ من الخيال والإيحاء والصورة ميداناً له؟ والجواب يحتاج إلى كثيرٍ من التأنِّي والحفر على التماثلات والاختلافات والتقاطعات! وهذا ما حاولت أن أقوم به ولا أدَّعي أنني وصلت لإجابة نهائية فيه.أما استرجاع الفلسفة بالشعر الذي وجده غريباً، فهو أمر له أصوله الفكرية والفلسفية بل والتاريخية؛ ففي البدء كان الشعر، وكان الشعر أسبق من الفلسفة في الظهور وثمة فلاسفة يعتبرون الشعر أسبق من الفلسفة في مقاربة الحقيقة؛ ذلك أن «ما يقوله ويعيشه الفلاسفة قد عاشه الشعراء وعبروا عنه، على وفق تعبير فرنان ألكييه...، «(فرنان ألكييه، معنى الفلسفة، تر. حافظ الجمالي، دمشق،1999،ص242).

 

أما قوله :إن حماستي للفلسفة قادتني «إلى الزعم بأن الفلسفة ممارسة أسلوبية»، وهذا حسب رأيه يحط من شأن الفلسفة، ومن شأن الأسلوبية، ولا يسمو بالشعر! وبأنه بعيد عن الواقع، وهو أقرب إلى التطرف النظري لا يؤيده التطبيق»، فهي خلاصة يقول بها عديد المشتغلين بالفلسفة، من أمثال دولوز وغاتاري في «ما الفلسفة»، وكريستيان دوميه في «جنوح الفلسفة الشعري»، وغاستون باشلر في « شاعرية أحلام اليقظة»،؛إذ عُدَّ كتابه «قراءة أدبية فلسفيّة معمَّقة لظاهرة العودة إلى الطفولة مكاناً وزماناً وأحلاماً»، كما قال: «كم سيتعلم الفلاسفةُ لو وافقوا على قراءة الشعراء»، بل يضيف بعضهم «أن الفلاسفة الكبار هم أسلوبيون كبار»، وأن اللغة هي القاسم المشترك بين الشعر والفلسفة، باعتبارها «اختبارًا» و»محاولة» في إعادة التسآل، وتفضيل المغامرة على الراحة، والتيه على الوصول، وبخاصة أن الإخفاء أو التخفّي سمة مشتركة بينهما. فاللغة، في مستواها الإشاري، تخفي موجهات إنتاجها للمعنى، والفلسفة تخفي آليات اشتغالها، وهذا هو المفهوم العام الذي نستشفّه من قول نيتشة:»كل فلسفة تخفي فلسفة أخرى، وكلّ رأي هو مخبَّأ، وكلّ كلام ليس سوى قناع».(محمد أندلسي، جينالوجيّا الخطاب الميتافيزيقي، منشورات عكاظ، الرباط، 2003، ص12)

 

إنَّ آليات الإخفاء التي يمارسها كلٌّ من الشعر والفلسفة لدليل على الإحساس بالنقص عند تأمل الوجود، ... فالشعر والفلسفة أداتان للكشف عن الوجود؛ «إحداهما للتعبير عن الإمكان، والأخرى للتعبير عن الآنيّة، والوجود إمكان وآنيّة معاً، وبهذا التفسير لماهية الشعر تسقط كل المعارضات التقليدية بين الشعر والفلسفة، ويصيران متكاملين».(عبد الرحمن بدوي، الإنسانية والوجودية في الفكر العربي، بيروت،1982،ص11). وقد فتح هايدجر الممارسة الفلسفية على الشعر، حين لم يكتف بقراءة شعر هولدرلن (كما هو شائع) بل قرأ عدداً كبيراً من شعراء ألمانيا خاصة وسواهم، مثل: جورج تراكل، وجورج ستيفان، وريلكة، وآخرين، قراءة أنطولوجية/ وجودية، وقام بإقصاء الإجراء المنطقي الصارم بوصفه شرطاً من شروط التفلسف، بل ذهب إلى خلاصة»أنْ لا شيء يضاهي الفلسفة في قول الوجود سوى الشعر»؛ وكانت كتابته تلك انعطافة نوعية في إحداث ثورة في مفهوم الشعر وغاياته وماهيته.فالشعر حيِّز تمارس اللغة فيه قول حقيقة الوجود، وهو مجال للتفكير فيما عجزت الفلسفة عن التفكير فيه منذ اللحظة الأفلاطونية الأولى.أما نيتشه فقد سعى إلى إثبات وهمية التصور الأفلاطوني الميتافيزيقي الذي كرّس الفصل بين العقل والخيال، واجترح نمطاً جديداً من التفكير بالاستعارة؛ فلم تعد الاستعارة لديه مجرّد محسنٍ بديعي، وإنما هي (أسلوبٌ) ملازم لقصدٍ لغويٍّ وفلسفيٍّ، فكلُّ استخدامٍ للاستعارة يتضمَّن موقفاً فلسفياً منها ومن اللغة بشكل عام.فلم تعد الاستعارة لديه حِلْيَةً تزيينيةً، وإنما هي أداة معرفية، وآلية حجاجية تسهم في بناء الأنساق التصويرية، فالاستعارةُ هي (أسلوبٌ) يختاره الفيلسوف لبناء أطروحته، واستخدامُها لا ينفصل عن أسلوب التفكير؛ لأن الصورَ الاستعاريَة هي التي تمدُّه بالأفكار، وتتداخلُ مع التيمات الفلسفية، وتمنح الخطابَ الفلسفيَّ بُعده النقديَّ والجماليَّ «.(عائشة أنوس، أساليب التخييل في الفلسفة، مجلَّة فكر ونقد، ع48، أفريل، 2002، ص58).

 

أما بخصوص الاستنتاج الذي يفضِّله وهو «إن في شعر درويش إشارات فلسفية» فهو قول انطباعي لا يستند لخبرة تراكمية في قراءة منجز درويش، ولعل اجتزاء تلك الأسطر الشعرية دليل على ضحالة المعجم الدرويشي لدى المجتزئ، ففي شعر درويش عمق فلسفي وثقافي وحضاري، لم أقل إنه يجعل من درويش فيلسوفاً، كما زعم: «عقد قطوس العزم على حشر درويش في زمرة الفلاسفة» فهذا استنتاج يبطله عنوان الكتاب، والعنوان عتبة نصية دالة لكل ذي بصر نقدي؛ عتبة يصعب أن يصعد إليها أي قارئ، وتتأبى هي النزول لأي قارئ!ولعل الشيء الأكثر إثارة للاستغراب حين يقتطع جزءاً يسيراً من قصيدة كاملة من قول درويش:»تتسع البحيرة في شمال الروح...إلخ»، ليتساءل: كيف تكون للروح جهات شمالاً وجنوباً؟ وهذا نوع من التعمية حتى يضيع هيبة التحليل ووقاره. فالنص الكامل الذي اقتطع جزءا منه هو:

 

«ولنا بلادٌ لا حدود لها، كفكرتنا عن/المجهول، ضيقةٌ وواسعةٌ. بلادٌ.../حين نمشي في خريطتها تضيق بنا،/وتأخذنا إلى نفق رمادي، فنصرخ/في متاهتها: وما زلنا نحبك. حبنا/مرضٌ وراثيٌّ. بلاد حين/ تنبذنا إلى المجهول... تكبرُ. يكبرُ/الصفصافُ والأوصافُ. يكبر عشبُها/ وجبالها الزرقاء. تتسع البحيرة في/ شمال الروح. ترتفع السنابل في جنوب/الروح. تلمع حبة الليمون قنديلاً/ على ليل المهاجر/ ...../ فأقول: تلك بلادنا حبلى بنا... فمتى ولدنا؟/هل تزوج آدم امرأتين؟ أم أنَّا/سنولد مرة أخرى/ لكي ننسى الخطيئة؟»( درويش، الأعمال الكاملة، ج4، صص 45- 46).

 

فالمركز بالنسبة لدرويش، بدءاً، بيته الذي هُجِّر منه، وقريته التي طُرد منها، ووطنه الذي ابتلعه اليهود، بتواطؤ العالم كلّه، وقد أخذ درويش بفعل تطور مراحل الصراع، وخذلان الأمم لقضية شعبه، يتنقل في لحظات المرارة من هذا المركز إلى الهامش الذي تجسِّده لغة القصيدة، فسعى إلى إطلاق لغته الشعريّة في أفق ملحمي يكون فيه التاريخ مسرحاً لمناطق شعريّة فسيحة تتسع، حين يضيق المركز، فيتجول تجوالاً غير محدود في ثقافات الشعوب والحضارات والرموز والأساطير وكتب الأديان، بحثاً عن عناصر الهوية الذاتية في ظِلِّ اختلاط الهويات وتصادمها وتعايشها.(انظر: صبحي حديدي وآخرون، زيتونة المنفى، دراسات في شعر محمود درويش، ؟).فدرويش هنا يطرح سؤال الوجود العميق بقوة والسؤال عن زمن الولادة والموت وأسئلة الخطيئة؛ وهذا ما أحدثه على مشروعه الشعري من تطوير فكري وفلسفي عبر الجمالي، الذي كان للتأمل الفلسفي فيه دور كبير نقله إلى تخوم الفلسفة؛ حتى فلسفة الوجود والعدم ربطها درويش بوجوده وفنائه وبوطنه وفَقْده، فكأنه ولد محاصراً بثنائيات: «الموت والحياة، والشك واليقين، والحلم والواقع، والأعداء والأصدقاء، والأنا والآخر، والنفي والإثبات، والغياب والحضور، والانكشاف والاحتجاب»، ليجسد العلاقة الجدلية بين تلك الثنائيات؛ فكأن كلّ حضور مؤسس على غياب، وكلّ انكشاف مؤسّس على احتجاب! وهو قول يستعيد فيه فكرة «الخطيئة والتوبة»، والخروج من الجنة، مع ربطها بالخروج من وطنه:متوغلاً بين جغرافيتين: واحدة حصلت في السماء، أخرجت آدم الأول من (فردوسه)، وثانية فيزيقية على الأرض التي طُرد منها آدم الثاني/درويش، وكأنه ينتقل من (محو الأول بإخراجه من الجنة)، إلى (محو آدم الثاني بإخراجه من وطنه).

 

أما القول بأن «الفلاسفة على الإطلاق رفضوا الأساليب الشعرية لأنها تقوم على التخييل الكاذب»، فهو تعميم ترفضه الوقائع، وأكتفي بالإحالة إلى الفلاسفة المسلمين من الفارابي إلى ابن سينا إلى ابن رشد فضلا عن ابن عربي، وهو من أوائل من أثار قضية الكتابة الفلسفيةِ البُرْهانيَّةِ العلميّة والكتابة الشِّعريَّةِ؛ فقال:»يعدُّ الخيالَ مَلَكَةً مَعرفيَّة وفِعلاً وجوديَّاً، وهو في مكانه ليس أقَلَّ شأناً من مكان العقل، لهذا سمَّاهُ بَرْزخاً. ويعني بالبرزخ جوازَ مُرور/ عُبور نَعْبُرُ به بين الرُّؤية والرُّؤيا بين المرئي واللامرئي، وهذا الأمر يبوِّئُهُ مكانةً أرفعَ من الحسِّ ومن العقل. بل يذهب ابن عربي مذهباً أبعد حين يجعل الخطابَ التَّخييليَّ خَرْقاً للخطاب الفلسفيِّ الماورائيِّ؛ إذ أزال الحواجزَ بين الكتابة الفلسفيةِ البُرْهانيَّةِ العلميّة والكتابة الشِّعريَّةِ.(عن: علي حرب، مثلَّث الفلسفة الحقيقة، الوجود، الذات،مجلة العرب والفكر العالمي، ع13/14، ربيع، 1991، ص230).

 

أما الشعريات الحديثة فتختلف عما ألفه القارئ المستهلِك،فالمفهوم المعاصر للشعرية تعترف بما للشعرية المعاصرة من تغلغل في روح المفاهيم المتنوعة وعلى رأسها الفلسفة، وبعض الفلاسفة يعترفون بما للشعرية من تغلغل في الفكر؛ فالشعرَ الذي لا ينهل من الفكر والفلسفة والفنون الأخرى وليس له خلفية معرفية، يظل شعراً مسطَّحاً يغيب عنه الجوهر.هكذا يغدو الشعر، في الشعرية المعاصرة، ظاهرة أنطولوجيةً عَصِيَّةً على التعريف بلْهَ التدجين، يثير أسئلة أكثر مما يقدم إجابات، ويطرح إشكاليات أكثر مما يحلّ مشكلات.

 

ويخلص الكاتب إلى أن «الشعر تعبير عن الذات عند أكثر المدارس عدا الواقعية!»، ومن حقنا التساؤل عن أي ذات ترى يتحدث؟ هل هي الذات الفارغة؟ أم الثقفة العارفة؟ أم الحاملة لهموم الآخرين؟ أم الذات التي وصِفَت بأنها «الابن المدلَّل للفلسفة»؟ التي عُدَّت في فترة من الفترات مصدراً للمعرفة؟ وهل يمكن تصور نشاط فكري دون وجود ذات حاملة له؟

 

وبَعْـــدُ؛ فإن الشعر لا يمكن أن يكون فلسفةً، والفلسفةَ لا يمكن أن تكون شعراً، ولكن ليس غريباً أن تجد الفلسفةُ أصداءها في الشعر، مثلما يجد الشعر أصداءه في الفلسفة عبر اللغة؛ إذ اللغة تشكل مشتركاً جامعاً غير مفرِّق، في أسئلة كلٍّ من الفيلسوف والشاعر. وإذا كان الشعر يمثِّل مرحلة أداء جمالي على مستوى اللغة، فإنه يمثل أداء فلسفياً على مستوى الفكر، وبخاصة أن الأداء الشعري سبق الأداء الفلسفي، وأفاد من حمولته المعرفيَّة، وتشرَّبها.إن الشعر والفلسفة على وجود الاختلاف بينهما، يلتقيان في كونهما مصدرين للوعي، وهما من أبرز المصادر التي يستقي منها الوعي قوامه، وكلاهما يمارس التأمل في العالم والوجود، كلٌّ على طريقته الخاصة. كما أنَّ جوهر الشعر وجوهر الفلسفة يلتقيان في البحث عن الحقيقة، وصوغ جمهوريتهما الفاضلة، وإن لم يصلا إليها، أو يمتلكاها!.

 

 

 

 

 

المصدر: الدستور

09 يناير, 2022 01:13:12 مساء
0