تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
«زهرنامة» لراشد عيسى مدونة شعرية تنحاز للمحبة والطبيعة وتعلي من شأن الجوهر الإنساني

المحبة، بوصفها فضاء يتيح التحليق لكل جناح راغب بالحرية، وكلمة تمتلك من السحرية ما يجعلها قادرة على إيقاف الزمن، عند تلك اللحظات اللامعة في الوجدان، بحيث «لا يتساقط زهر العمر/ ولا يهرم ماء أو نجمة»، وبوصفها قادرة على اجتراح صياغة أكثر جمالية للتاريخ، بحيث «تصبح صخرة سيزيف حقل سنابل/ ويكفكف زوربا دمع الغرباء/ ونرى الحجاج الثقفي يبيع الورد/ على مدخل بابل..»، تلك واحدة من الثيمات الرئيسة، التي يقوم عليها ديوان «زهرنامة»، الصادر حديثا، عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، للشاعر والناقد الدكتور راشد عيسى.
ويتيح الشاعر من خلال ديوانه الجديد الإطلالة على ذاته الشاعرة، فندخل في مختبره الإبداعي، متأملين أسرار قصيدته، وما يجول في خلد صاحبها قبل أن تتجلى عليه وبعد هذا التجلي، فنراه يتخذ من «جبل العشاق» معادلا موضوعيا لذاته:

«احملْ معي غابة الشاق يا جبلُ
أنت الوحيد الذي لم يغويه الأزلُ
إذا عطشتَ تشدّ الغيم من يده
فيقشعر على خوفٍ.. وينهملُ».
ومن ثم يحدثنا الشاعر عن رسالته، أو عن واحدة من رسائله، الوجودية، فيقول:
«ويْلي علي.. فموسيقاي عازفةٌ
لحن الجنون ليخفي نزفه الأملُ..».
ثمة انحياز للأمل، وتأمل أن يظل هذا الأمل شامخا وعزيزا.
ومن خلال «صمت مبحوح»، نتأمل واحدة من الصور التي يستلها الشاعر من ألبوم المحبة والشعر:
«لم أطلب الحب لا دَيْنا ولا قرضا
أنا الرضى غير أن الحلم لا يرضى
رتبتُ معنايَ لكن لا يطاوعني
فعاش طفلا غريبا يعشق الفوضى..»
فالشاعر في داخله «طفل غريب» إذن، وصمته بات مبحوحا إذ «لا صوت في الصوت»، يقول:
«لا صوت في الصوت بح الصمت في لغتي
فكيف أنجو بقلب صمته فوضى؟»
وبطبيعة الحال سيكون الملاذ في المحبة والهوى..:
«عذري وإن لم أجد في الحب معذرة
أن الأصحاء في شرع الهوى.. مرضى».
ويحمل ديوان الشاعر الجديد رسالة إنسانية تؤكد وحدة الوجود، على اختلاف الشرائع والأديان، وعندها، يقول الشاعر، إن الكون سيصير «قصيدة، وطغاة العالم شعراء»، يقول:
«عيسى يتنادى حواءْ/ آدم يبحث عن مريمْ/ ولذا حين يتم لقاء الشعراء/ سيصير الكون قصيدةْ/ وطغاة العالم شعراء..».
ويتابع الشاعر الذي يقف موقف الأب الحريص على تمرير خلاصة تجربته في الحياة لولده، منحازا للطبيعة ومفرداتها بوصفها خلاصا من أزمات الراهن والمعيش:
«يا ولدي/ قلبك عقل الأبدية/ ضع عقلك تحت جناح الهدهد واعبر في غيمةْ/ واصعد جبلا مهجورا وتوحد في خيمةْ/ خذ معك حصانا بريا، شاة، نايا وعصا/ وتآلف مع أخلاق الأزهار وحزن الأنهار/ وعائلة الأعشاب وصمت الصحراء/ حينئذ سيصير الكون قصيدة..».
ولا يتوانى الشاعر عن استخدام مفردات مستعملة في الحياة اليومية في سياقات شعرية جديدة، فهو مثلا (يمسمرُ) نفسه على باب حبيبته، و(يمكيجُ) الحزن، و(يسشور) الغيوم. يقول:
«لكم مكيجتُ يا رجواي حزني
وسشورتُ الغيوم وما تخبّي
فلا تستيئسي من قمح أرضي
ولا تستنكري تاريخ عشبي».
أما عنوان الديوان «زهرنامة»، فجاء مركبا من مفردتين: زهر ونامة، والثانية فارسية ومعناها السجل، ليكون العنوان بمثابة (سجل الزهر) الذي يتضمن تاريخه ومتعلقاته، وهو عنوان يؤكد انحياز الشاعر للطبيعة ومفرداتها.
وإن كانت جلّ قصائد الديوان تترجم رحلة الشاعر مع القصيدة تارة، ومع الحبيبة تارة أخرى، غير أن واحدة منها تعكس صورة صادقة وقريبة عن رحلته مع القصيدة، وهي قصيدته «الجاهلي المعاصر»، فالقصيدة، هنا، تبوح وتكشف أسرار وخبايا الذات الشاعرة، وتجسد رؤيته الشعرية بأسلوب فني بعيد عن التنظير والمباشرة، وهي تنطوي على حكاية، تذكرنا بقصائد عمر ابن أبي ربيعة وحكاياته مع النساء، يقول:
«ويوم قصدت البر أقتنصُ الظّبا
وأكتبُ فوق الرمل قلبي.. وأمحونّْ
لمحت ظباء البدو في حضن روضة
وزهر الخزامى حولهنّ يزغردنّْ
فآنسة تشدو وترسل صوتها
هديلا من الأنغام يجرحها الشجنْ
وأخرى حسدتُ الثوب كيف يلفّها
وخلتُ نوايا الثوب تعبث بالبدنْ..»

 

 

 

 

المصدر: الدستور

10 يناير, 2022 10:53:37 صباحا
0