تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
إيمان صبري خفاجة تكتب أمي ودميان ومجد الدين

تحفظ أمي تاريخ الأعياد المسيحية القبطية عن ظهر قلب، وفي كل ليلة من ليالي الأعياد تجلس أمام القداس تستمع إلى الترانيم والصلوات متيقنة بأن الدعاء هذه الليلة أيضا مستجاب؛ فالليلة ليلة عيد. ساعات تقضيها أمام شاشة التلفزيون تملأها البهجة، ولا تلتفت لغضبنا أنا وأخوتي حين نعلن رغبتنا في مشاهدة فيلم من أفلام السهرة، وتنتصر رغبة أمي التي رسخت للسماحة الدينية التي يتحدثون عنها في الكتب بأصعب وأعمق الكلمات.

ثم يأتي صباح أول أيام العيد فتعلن أمي أننا في المساء على موعد مع الزيارات السنوية، وتصطحبنا إلى منازل صديقاتها الثلاث للتهنئة بالعيد، وفي كل منزل تتبادل مع كل واحدة منهن أطراف الحديث حول الحياة والعمل، ويومياتهن الشاقة المتشابهة حد التطابق، في حين نلهو حولهن أنا وأخوتي نلتهم بشراهة حلوى وكعك العيد.

ظلت هذه العادات حية فينا وجزءا من طقوس منزلنا حتى الآن، لكن كان هناك سؤالا عالقا في ذهني؛ كيف تبدأ تلك الصداقات وتنشأ برغم الاختلاف؟ أعلم أننا مجتمع يعشق تبادل العادات والتقاليد ويتقاسمها ثم تتوارثها الأجيال، لكن حتما هناك مشاعر أخرى وحكايات تولد هذه الحالة.

كان عالم الأدب هو من وضع يدي على الإجابة التي صاغها الكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد، في قالب روائي بعنوان «لا أحد ينام في الإسكندرية»، أول أجزاء ثلاثيته الشهيرة التي وثق من خلالها لتاريخ هذه المدينة العريقة، كما كانت هذه الرواية بوابة عبوري إلى عالم «عبدالمجيد» الذي كان ومازال وسيظل عامرا بالحكايات، وجاءت الإجابة التي بحثت عنها طيلة عمري في صداقة عفوية نشأت بين «مجد الدين ودميان» بطلا الرواية.

«مجد الدين»، كان رمزًا لرجل القرية البسيط الذي نشأ على دين الفطرة، علاقته بالدين وبالله روحانية كعادة أهل الريف في ذلك الوقت، العلاقة فردية خاصة بين العبد وربه، ومادمنا نحب إله هذا الكون فلزامًا علينا أن نحب كل من يحبونه ويتقربون منه بشتى الطرق.

«‎دميان»، أحد أهالي الإسكندرية الفقراء، لا يعرف عن الكنيسة سوى انتماءه إليها وجلسته على أبوابها في الأعياد ينتظر نفحات أهل الكرم وهم كثر، يجمعه بالدين عشم في الله شأنه شأن كثيرين، على يقين أن الله لن يردهم خائبين.

اجتمع «مجد الدين ودميان» في رحلة البحث عن عمل، ولكن وجدا نفسيهما بين نيران واحدة من أشرس معارك الحرب العالمية الثانية التي دارت في مدينة العلمين، حرب لا ناقة لهما فيها ولا جمل؛ دخلها الصديقان دون إرادة منهما؛ ليلتمس القارئ في يومياتهما معاناة العالم أجمع في ذلك الوقت.

الرواية تحمل كمًا هائلا من المعلومات عن الحياة في مصر بل دول العالم بقياداتها الشهيرة في تلك الفترة، ويمكن أن تعتبر الرواية وثيقة عن تلك الحقبة التاريخية التي غيرت مصير الإنسانية؛ جاءت هذه الحكايات مدعمة بالأسماء والوثائق، وبمرور الأحداث يكتشف القارئ أن علاقة دميان ومجد الدين كناية عما افتقده العالم من إنسانية في ذلك الوقت؛ فهي صداقة رفض العالم أن يعيشها أويبقيها!

جمع بين دميان ومجد الدين فضاء مدينة العلمين الذي لم يُسمَع فيه سوى أصوات قطارات تحمل الجنود، وقطارات أخرى تحمل جنسيات من البشر يغيرون وجهتهم هربا من ويلات الحرب، وفيما عدا هذه الزيارات لا يجد الصديقان شيئا من مظاهر الحياة في تلك المدينة.

تقاسم الصديقان الطعام والماء الشحيح، وبث الآخر حنينه لأهله ومدينته وقريته العامرة بمظاهر الحياة، ثم بدأ كل منهما الغوص بداخل حياة الآخر، يروي كل منهما يومياته، معاناته الشخصية، وأعباء الحياة التي انتهت بهم إلى مصير مجهول، ثم ذهبا إلى المنطقة التي يصعب على كل منا الحديث عنها مكابرة أو تجنبا لتأنيب الضمير المباغت؛ تحدث كل منهما عن أخطائه وتقصيره الذي يشمل خطايا تحرمها الأديان.

تحول كل منهم إلى ملاذ للآخر وخلاص، كرسي اعتراف في كنيسة، أو خلوة في مسجد، كانت نتيجة هذه الأحاديث أن تقرب دميان من طقوس كنيسته وتعرف على جوهر انتمائه الديني من خلال أسئلة مجد الدين، وكذلك الأخير؛ فيمكنك أن تشاهد في حوارهما كيف وقف محمد نبينا الكريم في مسراه يصلي بالأنبياء مجتمعين ولماذا؟! وتعرف أيضا لماذا ينتظر بعضنا عودة السيد المسيح ليخلصهم من شرور العالم؟!

بالوصول إلى هذا الجزء يتبادر إلى ذهني أحد أهم مشاهد الرواية حين باغت مجد الدين صديقه ليلة عيد الميلاد المجيد بالسؤال التالي: ماذا تقولون في القداس يا دميان عن ستنا مريم؟ نقول كلاما كثيرا كثيرا لا أحفظ منه إلا القليل. وراح يرتل بصوت عميق: مجد مريم يتعظم في المشارق والمغارب، كرموها عظموها، ملكوها في القلوب.

يبتسم مجد الدين ببهجة ويندمج هو الآخر في حديث طويل عن سورة مريم وما للسيدة العظيمة من قيمة لدينا في الأرض والسماء، وكلما طرح أحدهم على الآخر سؤالا، تعمق كل منهم في دينه وتسامح مع حياته أكثر، وتقبل الآخر بعيوبه وأخطائه، حتى رأى مجد الدين ذات ليلة نورًا يخرج من وجه دميان وهو نائم وظل طيلة حياته يقسم على ذلك.

تستمر رحلة الصديقين حافلة بالأحداث حتى يأتي مشهد نهايتها وهو واحد من أهم المشاهد الروائية على الإطلاق عندما مزج الكاتب بين تمسك الإنسان بروحانيات دينه كملاذ أخير مع الواقع بشراسته، يتجلى ذلك حين قرر الصديقان التشبث بأحد القطارات للعودة والفرار من نيران الحرب، تشبث نتج عنه تعرضهم للموت وجها لوجه آلاف المرات.

في تلك اللحظات ينتقل الكاتب بخفة بين دعوات يرددها دميان ودعوات وآيات يتلوها مجد الدين، كلمات رجاء لله لا تعني في وجوهرها سوى أننا والآخر وجه واحد، الاختلاف يعود للنشأة والظروف، وربما للتعود وصدفة الميلاد، كما كانت أصواتهم كناية عن صرخات الكثير من البسطاء الذين فقدوا على هامش الحروب ولم يشعر بهم أحد سوى صفحات الروايات التي لا يشغلها سوى التجربة الإنسانية.

لظروف المرض لم تعد أمي قادرة على زيارة صديقاتها لكنها حريصة على مهاتفتهن كل عيد، وحين ألتقي واحدة منهن في الشارع صدفة أسارع بخطواتي إليها للسلام وتذكيرها بأيامنا، ثم أعود إلى أمي أحمل سلامات صديقاتها التي تتحول إلى ابتسامة بهجة لا تفارق وجهها.

ومازالت أمي في ليلة العيد تشاهد القداس وحين أعود من الخارج تسارع لتخبرني بالفعاليات، فأروي لها الحكايات التي أقرأها عن الصداقات والمواقف النادرة التي تجمع بين المسلم والمسيحي، وعن التاريخ النضالي المشرف للكنيسة المصرية؛ أرى دموع الانفعال بالكلمات وحميمية هذه المواقف في عينيها، فتدمع عيني امتنانا لذكرى الطفولة التي كنت أتذمر منها، فكانت أول الأبواب التي فيما فتحت قلبي وعقلي على محبة العالم.

 

 

 

المصدر: الشروق

12 يناير, 2022 03:09:35 مساء
0