مدن غير مرئية.. طيور رخٍّ على رقعة شطرنج (13)
بولو: ربما لا تطلّ مصاطب هذه الحديقة إلّا على بحيرة عقلنا.
قبلاي: ومهما كان البُعد الذي قد تأخذنا إليه مشاريعنا المقلقة كمحاربين وتجّار، فكلانا يُخفي في دواخل نفسه هذا الظلّ الصامت، هذا الحديث ذا الفواصل، هذا المساء الذي هو دائماً المساء نفسه.
بولو: ما لم يكن الحمّالون، قاطعو الحجارة، جامعو القمامة، الطهاة وهم ينظّفون حواصل الدجاج، الغسّالات المنحنيات على الصخور، الأمهات اللواتي يحرّكن الرز وهن يعتنين بأطفالهن، موجودين إلّا لأننا نفكر بهم.
قبلاي: إذا أردت الحقيقة، أنا لا أفكّر بهم أبداً.
بولو: إذاً لا وجود لهم.
قبلاي: هذا الحدس لا يبدو بالنسبة إليّ ملائماً لأغراضنا؛ من دونهم ما كان لنا أن نبقى هنا أبداً نتأرجح، متشرنقين في أرجوحتَيْ نومنا.
بولو: إذاً، يجب نبذُ الفرضيّة. وهكذا تصبح الفرضية الأخرى صحيحة: هم موجودون ونحن غير موجودين.
قبلاي: لقد برهنّا على أنّنا لو كنّا هنا، فلن يكون لنا وجود.
بولو: وها نحن هنا في الحقيقة.
■ ■ ■
تمتدّ من تحت قدمَيْ عرش الخان الأكبر أرضيّةٌ مرصوفة بقرميدٍ إيطاليّ مزجّج. على هذه الأرضية نثرَ المُخبر الصامت، ماركو بولو، عيّنات من سِلَع معيّنة عاد بها من رحلاته الى أقاصي الإمبراطورية: خوذة، صدفة بحرية، جوزة هند، مروحة يد. حاول السفير، بترتيب الأشياء وفق نظام معيّن على بلاطات القرميد السوداء والبيضاء، وتغيير أماكنها أحياناً بحركات محسوبة، أن يصوّر بصرياً لعينَيْ العاهل تقلّبات أسفاره، أوضاع الإمبراطورية، امتيازات المناصب الريفية النائية.
كان قبلاي لاعب شطرنج حادّ الذكاء؛ فلاحظ، وهو يتابع حركات ماركو، أنّ قطعاً معيّنة تُلمّح ضمنياً إلى المناطق المجاورة لقطع أخرى أو تستبعدها، وأنه كان يتمّ تغيير أماكنها على امتداد خطوط معينة. فكان يستطيع، متجاهلاً تنوّع أشكال الأشياء، فَهْم نظام ترتيب إحداها بالعلاقة مع نُظُم ترتيب الأخريات على أرضية القرميد المزجّج. فكّر: "لو أن كل مدينة تشبه لعبة من ألعاب الشطرنج، سأتملّك إمبراطوريتي أخيراً في اليوم الذي أتعلّم فيه قواعد اللعب، حتى لو لم أنجح أبداً في معرفة كل ما تحتويه من مدن".
الذين يطلّون من المرتفعات يخمّنون ما يحدث في المدينة
عملياً، كان من العبث بالنسبة إلى أحاديث ماركو أن توظَّف كلّ هذه الطُّرَف: إن رقعة شطرنج ستكون وافية بالغرض بقِطَعها المحدّدة النوعية. كلّ قطعة من جانبها يمكنها إعطاء معنىً مخصوصٍ: قطعة فارس يمكن أن تقابل خيّالاً حقيقياً أو موكبَ مركبات، جيشاً في مسيره، أو نصْباً تذكارياً لمأثرة فُروسية؛ قطعة ملِكة يمكن أن تكون سيّدة تنظر من شرفتها إلى الأسفل، نافورة، كنيسة بقُبّةٍ مدببة، شجرة سفرجل.
لدى عودته من مهمّته الأخيرة، وجد ماركو بولو الخانَ في انتظاره، جالساً وأمامه رقعة شطرنج. وبإيماءة دعا الفينيسيَّ إلى الجلوس قبالته ووصف المدن التي زارها، غير مستعين إلّا ببيادق الشطرنج. لم يفقد ماركو شجاعته. كانت بيادق الخان الأكبر، قِطَعاً ضخمةً من عاج مصقول: بتنظيمه على الرقعة طيور الرخّ المحلّقة والفرسان المتجهّمين، بتجميعه أسراباً من البيادق الثانوية، برسْمه جادّاتٍ مستقيمة أو منحرفة مثل حركة ملكة تتقدّم، أعاد ماركو خلْق منظورات وفضاءات المدن السوداء والبيضاء في الليالي المقمِرة.
متأمّلاً هذه المشاهد الرئيسة، فكّر قبلاي مليّاً بالنظام اللامرئي الذي يعزّز بقاء المدن، بالقواعد التي تقضي كيف تقوم، تتّخذ شكلاً وتزدهر، مكيّفةً نفسها مع الفصول، ومن ثم كيف تُصبح مُحزنةً وتهوي متحوّلةً إلى خرائب. اعتقدَ أحياناً أنه أوشك على اكتشاف نظام متناغم، متماسك يباطن التشويهات والتعارضات اللامتناهية. إلّا أن أي نموذج لا يستطيع صموداً، في المقارنة بلعبة شطرنج. ربما، بدل أن يُجهد المرء دماغه في استلهام رؤىً مساعدة هزيلة من قطع شطرنج مآلُها النسيان على أية حال، سيكون كافياً أن يلعب لعبةً وفق القواعد، وأن يعتبر كلّ حالة من حالات الرقعة المتعاقبة شكلاً من الأشكال التي لا تُحصى، والتي يجمعها نظام الأشكال ويدمّرها.
الآن لم يعد على قبلاي خان إرسال ماركو بولو في حملات بعيدة؛ أبقاه عنده لاعباً ألعاب شطرنج لا نهاية لها. معرفة الإمبراطورية كانت مخفية في النمط الذي ترسمه انتقالات الفارس ذات الزوايا، والمسارات المائلة التي تفتحها غارات بيادق الشطرنج، وخطوة الملك المتثاقلة الحذرة والبيدق المتواضع، وحركات الصّعود والهبوط العنيدة لكلّ لعبة.
حاول الخان الأكبر التركيز على اللعبة، ولكنْ كان غرض اللعبة هو ما أفلت منه الآن. كلّ لعبة إمّا أن تنتهي بربح أو خسارة، ولكنْ ربْحُ ماذا؟ وخسارةُ ماذا؟ أين كانت الرهانات الحقيقية؟ حين يُهزم الشاه، وبعد أن تزيحه جانباً يد الفائز، يظلّ تحت قدم الملك مربّعٌ أسود أو أبيض.
إيرين مدينةٌ تقع على مبعدة، وتتغيّر إذا اقتربتَ منها
هنا وصل قبلاي ــ بفصله لفتوحاته عن مجسّداتها من أجل اختزالها إلى الجوهريّ ــ إلى العملية المتطرّفة: إلى الفتح النهائي، ذلك الذي لم تكن كنوز الإمبراطورية المتعدّدةِ الأشكالِ بالنسبة إليه إلّا أغلفة خادعة. لقد اختُزل إلى مربّعٍ من خشب منبسط: إلى عدم...
■ ■ ■
مدن وأسماء (5)
إيرين هي المدينة المرئية حين تميل على حافّة الهضبة في الساعة التي تظهر فيها الأضواء، ويمكن عندها، في الهواء الشفّاف، تمييز لون المدينة القرنفليّ منتشراً على مبعدة في الأسفل: حيث النوافذ أكثر احتشاداً، حيث يخفّ اللونُ في أزقّة مضاءة إضاءةً باهتة، حيث يلتقط ظلال الحدائق، حيث يقيم أبراجاً تعلوها إشارات نيران؛ وإذا كان المساء ضبابياً، ينتفخ وهجٌ غائمٌ مثل إسفنجة لبنية أسفل الأخاديد.
على الهضبة رحّالة، رُعاة يدفعون قطعانهم، صيّادو طيور يراقبون شباكهم، نسّاكٌ يجمعون أوراق نباتات: كلهم ينظرون إلى الأسفل ويتحدّثون عن إيرين.
بين وقت وآخر تجلب الريحُ موسيقى طبول رنّانة وأبواق، ضجيجَ مفرقعات نارية في أضواء مهرجان ملوّنة؛ بين وقت وآخر تجلب قعقعةَ بنادق وانفجارَ مخزن بارود في سماء تُحيلها نيرانُ حرب أهلية الى سماء صفراء. اولئك الذين يطلّون من المرتفعات يخمّنون ما يحدث في المدينة، ويتساءلون عمّا اذا كان أمراً سارّاً أو غير سارٍّ أن يكون المرء في إيرين ذلكَ المساء. ليس لأن لديهم أيّة نيّة في الذهاب الى هناك (الطرقات المتعرّجة نزولاً الى الوادي سيّئةٌ على أية حال) ولكنْ لأنّ ايرين مغناطيسٌ بالنسبة إلى عيون وأفكار أولئك الذين يمكثون في الأعالي.
عند هذه النقطة يتوقّع قبلاي خان من ماركو أن يتحدّث عن إيرين كما تُشاهَد من داخلها. ولكنّ ماركو لا يستطيع فعل هذا: هو لم ينجح في اكتشافِ أيِّها المدينة التي يدعوها سكّان الهضبة باسم إيرين. بالنسبة إلى هذه المسألة، الأمر ضئيل الأهمّية: إذا شاهدتها، واقفاً في وسطها، فستكون مدينة مختلفة؛ "إيرين" هو اسمٌ لمدينة تقع على مبعدة، وتتغيّر إذا اقتربتَ منها.
بالنسبة إلى أولئك الذين يمرّون بها من دون أن يدخلوا، المدينة شيءٌ واحد؛ هي شيء آخر بالنسبة إلى الذين تُوقعهم في شراكها ولا يغادرون أبداً. هنالك المدينة حيث تصل لأوّل مرة؛ وهنالك مدينة أخرى تغادرها بلا عودة أبداً. كلتاهما تستحقّ اسماً مختلفاً؛ ربما، ما تحدّثتُ عنها حتى الآن هي إيرين تحت أسماء أخرى؛ ربما لم أتحدّث إلّا عن ايرين.
■ ■ ■
المدن والموتى (4)
ما يجعل آرجيا مختلفةً عن مدن أخرى هو أنّ لديها تراباً بدل الهواء. الشوارع ممتلئة بالتراب امتلاءً تامّاً، والغُرف تكتظّ بالطين حتّى السقوف. على كلّ درج وضُع درجٌ نقيض له، وفوق سطوح البيوت طبقاتٌ معلّقة من تضاريس صخرية تُشبه سماوات غائمة. لا نعلم إن كان السكّان يستطيعون التنقّل في أرجاء المدينة، موسّعين أنفاق الديدان والصدوع حيث تتلوّى الجذور: الرطوبة تُتْلف أجساد الناس، وقُواهم هزيلة؛ من الأفضل لكلّ منهم ألّا يظلّ ساكناً، منبطحاً؛ المدينة مظلمة على أية حال.
هنا، من الأعالي، لا يمكن مشاهدة شيء من آرجيا؛ بعضهم يقول، "إنها هناك في الأسفل"، ولا نستطيع إلّا تصديقهم. المكان مهجور. في الليل يمكنكَ، ملصقاً أذنك بالتراب، سماع صوت اصطفاق بابٍ أحياناً.
المصدر: الشرق الأوسط