سميح مسعود ذات القبعة الحمراء
اختار الشاعر والأديب سميح مسعود هذا الوصف وسما لروايته التي صدرت حديثا لتكون رابعة الأعمال الصادرة منذ أن داهمنا وباء الكورونا (ديوان شعر وثلاثة روايات)، وقد اسعدني أن شاركته فرحة الاحتفال بهذا العمل الجديد.
وإنما قدمت الشعر على الأدب في وصف الكاتب، لأنه اختار الدخول إلى السرد من بوابة الشعر، البوابة التي رافقته في عبورها «ذات القبعة الحمراء» البطلة الرئيسة لهذه الرواية، ولم تكن»سلفا « من نسج الخيال، بل إنسانة حقيقية، التقاها الراوي وهو طالب الدكتوراه في سياق حديث حول الشعر والشعراء، فكان أن تشكلت عبر هذه اللقاءات خيوط نسيج يحمل لوحة رسمتها تفاصيل العلاقة بينهما. علاقة إنسانية جميلة شكلت جزءا رئيسا من أحداث الرواية، وخلفية نابضة بالحياة في مشاهد هذا العمل الروائي. أحبها؟ تبادلا مشاعر الحب؟ قد يتعجل بعض القراء في البحث عن إجابة لهذا السؤال. ولكن الإجابة الحقيقية تكمن بين سطور الرواية من أولها إلى آخرها.
ينتمي هذا العمل إلى المدرسة الواقعية، في الشخوص والأحداث، والأماكن، ويخصص الكاتب لنفسه مهمة الراوي، هو طالب الدكتوراه الذي يسرد تفاصيل مرحلة مفصلية من السيرة الذاتية للكاتب وإن تخفى برداء الهندسة المعمارية، ربما فعل ذلك ليكتسب مرونة في وصف جماليات المعمار عبر الرواية، ولكون هذا التخصص أقرب إلى الفنون التي احتلت حيزا واسعا من فضاء الرواية، وكما هو واقع الحياة فقد حفلت الرواية بمشاهد تعكس الارتياح وتشرق بألوان البهجة و الفرح، والإنجاز والنجاح وغيرها من المظاهر، وفي مشاهد أخرى ساقت الأحداث غيوما تلبدت في السماء، وانصبغ الجو باللون الرمادي، اشتدت العواطف وهاجت النفوس، ألما لفراق لو مؤقتا، وحنينا لأيام جميلة مضت، وشوقا لمسافر عزيز ولهفة للقائه، وفي الفرح كما في الحزن تجلت العلاقات الإنسانية بين البشر وعاء تتشكل فيه كل تجليات النفس، الهدوء، والقلق، والأمل والألم. كل ذلك في صور تحرك الكاتب بينها بسلاسة، بلغة بسيطة مألوفة كأنه يحدثك بأحداث يومية. هذا الجمع بين المتقابلات هو مجرى الأيام وهو صورة الواقع.
تطل أحداث الرواية على مشاهد عديدة تعكس العمق المعرفي للمؤلف فثمة عطاء وافر من المعلومات التي تثري القارىء بالمعرفة وتفتح آفاقا للاستزادة من هذه المصادر، فمن الشرق يطل عمر الخيام بعلمه وشعره في ألق أشار إليه الكاتب خلال أحاديثه مع صديقته «ذات القبعة الحمراء»، فكان أن أدارت سلفا دفة مركب البحث، وحركت بوصلته لتؤشر باتجاه الشرق حيث عمر الخيام، بدلا من توماس إليوت و»أرضه اليباب» في الغرب، ليس تقليلا من شأن هذا الأخير، ولكن انجذابا لسحر الشرق.
كان في الرواية إطلالات لأعلام بحجم سارتر، وإرنست همنجواي، مصادفات ألقت بوجودها في النص بسلاسة، في مشاهد واقعية بعيدة عن الاستدعاء، وعالم الخيال والأحلام. هو ذا سارتر يحاور حمزة «نادل المقهى وأحد أبرز شخوص الرواية كما سيظهر لاحقا»، يتساءل سارتر «أي الكتب لم يعجبك أكثر؟»، سؤال بسيط يقول الكثير عن شخص ليس هذا موقع التعريف به.
وما هي فرصة أن تلتقي مصادفة بشخص مثل همنجواي!؟ وتتبادل معه في حديث عابر استعراضا لمؤلفاته، ولذلك التوافق على علو النص شأن في مقارنة مع ما يصور من الأعمال سينمائيا، ذلك أن النص أكثر تعبيرا عن الكاتب.
تنقل المؤلف في وصف أحداث الرواية موضوع هذه السطور بين مواقع عديدة تراوحت بين الطبيعة بسحر معالمها المتعددة، مرورا بدور الأوبرا، وصالات المطاعم على تنوعها، ومن بين أهم المواقع التي دارت فيها أحداث هذه الرواية غرفته في السكن الجامعي وإن كان مقلا في وصفها كما هو منهجه حيث يعطي أولوية للسرد والحوار، والمكتبة الجامعية، ثم مقهى «كود كونيا» المطل على تمثال لفرس وفارس لفت انتباه الكاتب إلى ما يمثله من مفارقة، فالفارس بعظمته التي أهلته للخلود بتجسيده في هذا التمثال بات موضعا للسخرية من طائر صغير يلقي عليه فضلاته كل يوم .
هذا المقهى مقر حمزة ذي الأصول البوسنية، النادل المثقف الذي نحى شهادته الجامعية جانبا، وآثر العمل بين الناس، وبات هذا المكان نقطة اللقاء للأصدقاء، يبحثون فيه عن بعضهم، ويتواعدون على اللقاء فيه، ويشكون لحمزة همومهم أحيانا، ويبحثون معه تفاصيل أمورهم ومستجدات حياتهم.
وكان للموسيقى أصداء جميلة عبر سطور هذه الرواية، فقد كانت اللقاءات مع سلفا في كثير من الأحيان لاسيما في البداية مقترنة مع مناسبة أو أكثر تتضمن عملا موسيقيا، مثل أوبرا عايده، وبحيرة البجع، وغيرها، وكما عرفها هو بعمر الخيام كانت إطلالته على عالم الموسيقى الكلاسيكية عبر صداقته مع سلفا، وعبر الموسيقى أيضا تعززت علاقته مع صديقه وابن بلده يوسف الطالب في مجال الموسيقى، والذي جعل للقاءاتهم نكهة أخرى بروح الموسيقى، يوسف الذي غذى روح الصديقات والأصدقاء بالموسيقى، شاركهم أيضا في آلامه الشخصية وانفصاله عن صديقته البولندية بتأثير الضحية للعصبية الطائفية المدعمة بأفكار غريبة وضلالات تحمل دلالات تآمر.
وكما كان للشعر حضور جميل، إلا أن ثمة حالة مبكرة كمؤشرات الزلزال المبكر حيث شارك بطل الرواية وبطلتها في مهرجان للشعر في البوسنة، شاركا فيه بمداخلات أثارت دهشة الحضور حيث تحدثت هي عن أشعار عمر الخيام الذي كانت قد بدأت بالانجذاب إلى عالمه، ولكن الأكثر غرابة كانت مشاركة من شاعر من صرب البوسنة اسمه «رادوفان كاراديتش « وهذه بعض أبياتها يخاطب البوسنة :
.... وخنجري يسبل العيون بالرماد
سأبقى فيك وحدي
لا مكان فيك للغرباء
رادوفان كاراديتش هذا اصبح رئيس الصرب والبوسنة ثم كان ما كان من الحرب الأهلية في يوغوسلافيا، واعتقل كاراديتش وحوكم بجرائم الابادة والتطهير العرقي، وحكم بالسجن من قبل محكمة الجرائم الدولية في لاهاي كان الحكم بداية «اربعين عاما»، وعند رفض الإستىناف تم تشديد العقوبة إلى السجن مدى الحياة .
عرفته سلفا بأهلها؛ أمها ياغدا ووالدها كارلو، و نسج معهم وشائج علاقات إنسانية متينة وعميقة، فقد اتخذوه ابنا، واعتبرهم بمثابة الأهل، ومحبة متبادلة متنامية بلغت أوجها عندما احتضناه وصديقه يوسف في بيتهما في زاغرب، بدعوة شخصية من والدته اليوغوسلافية بعيد حرب حزيران 1967، حيث مضت إليه في السكن الجامعي في بلغراد، ودعته بإصرار لزيارتها وزوجها في بيتهما في زاغرب في محاولة للتخفيف عليهما من آلام وأحزان لحقت بهما بفعل الشعور بالهزيمة، والقلق على الأهل، والبعد عنهم، وصعوبة الوصول إليهم، فكانا اليد الحنونة والبلسم الشافي لمشاعر الحزن والألم إلى أن اتخذا قرار العودة للديار مهما كان الثمن وكان أن تمكن يوسف من العودة إلى بيت لحم. والتقى صديق «صاحبة القبعة الحمراء» بوالديه في عمان ، ثم مضى يبحث عن عمل. ثمة العديد من التفاصيل والوصف لمواقف عاطفية شديدة التأثير لاسيما ما يخص علاقته بالسيدة التي كانت تدعوه وتشير إليه أمام الناس «سينكو» أي ابني
ولم تقف علاقة الراوي بسلفا وأهلها عند سفره من يوغوسلافيا، فقد علم أنهما أوصيا له ببيت ريفي مطل على البحر الأدرياتيكي إلا أنه أبى أن يكون للعلاقات الإنسانية إي مقابل إيا كان شكله ونوعه.
ترى ما مصير سلفا وأهلها؟ كانت تعرف شخصا آخر قبل أن تعرف صديقها، فكيف سارت الأمور وإلى أي مصير وصلت؟! تفاصيل قد تفسد على القارئ متعة القراءة.
المصدر: الدستور