{عمارة الحداثة} في العراق منذ تأسيس الدولة
الوصول إلى أوساط ثقافية مختلفة وإلى فئات عمرية متباينة، وإعطاء تصور واضح عن طبيعة عمارة الحداثة بالعراقية في الفترة المحصورة ما بين تأسيس الدولة العراقية، وحتى نهاية السبعينات، هو ما يسعى إليه كتاب «قراءة في تمثلات عمارة الحداثة بالعراق» لمؤلفه الناقد والباحث المعماري الدكتور خالد السلطاني، والصادر حديثاً في عمان. والمعروف، أن الفترة التي يغطيها الكتابة، هي فترة مهمة ورائدة، وخصبة بأعمال عديدة لمعماريين عراقيين أرسوا في زمنهم، الفعل المعماري الحداثي.
ومما لا شك فيه أنه ثمة انحسار في الثقافة المعمارية، وهذا الانحسار فاجع حقاً، وهو انعكاس لما يحدث في الخطاب الثقافي بصورة عامة.
يشير المؤلف في بداية الكتاب إلى معنى مفهوم عمارة الحداثة في العراق، حيث يرى أنه «ذلك النشاط البنائي، الذي بدأ يظهر جلياً في المشهد المعماري البغدادي والعراقي، اعتباراً من عشرينات القرن الماضي، أي بالتساوق مع تأسيس الدولة العراقي عام 1921، وكان ظهوره متسماً بالجدة والاختلاف».
وما يسم العمارة في العراق خلال القرن الماضي، هو اصطباغها بصبغة «الحداثة» التي تشاء المصادفة أن تكون الحداثة المعمارية العالمية وتوقيتاتها متزامنة إلى حد كبير لما جرى في العراق: الدولة، التي ظهرت على المسرح السياسي - الجغرافي، منذ أن تم تتويج الملك فيصل الأول، ملكاً على العراق في 23 أغسطس (آب) 1921.
تضمن الكتاب ثلاثة فصول بالإضافة إلى «ما بعد الخاتمة»، وتعريف بالكتاب وأهدافه ومحتوياته باللغة الإنجليزية، وقسم «تصويري» مصاحب للحدث التصميمي الذي تتحدث عنه تلك النماذج المعمارية.
ولكي يلاحق المؤلف النشاط المعماري العراقي، وتأثير ما تم تنفيذه من نماذج تصميمية، بصورة واقعية، لجأ إلى منظومة «التحقيب» الزمني، لرصد المشروع المعماري العراقي ضمن فترات زمنية محددة، تسهّل لنا رؤية ما حدث معمارياً، وبالتالي تسجيل ذلك بصورة دقيقة وموضوعية.
ففي دراسة العمارة في حقبة عِقدي العشرينات والثلاثينات، يرصد المؤلف الأسباب والعوامل التي نتج منها ظهور عمارة الحداثة بالعراق، ويعزوها للتحولات الكبرى التي طرأت على البيئة المبنية العراقية، أثناء فترة الاحتلال البريطاني (1917 - 1921)، وعند تشكل الدولة العراقية الحديثة عام 1921. فقد انعكست نتائج تلك الأحداث على طبيعة المنتج البنائي، سواء كان ذلك عمرانياً (تخطيط المدن) أم معمارياً. إن المتطلبات الجديدة التي أفرزتها تلك الظروف، وحاجة البلد الحديث إلى مختلف المباني.
ويرى في هذه الفترة، أنها مهمة جداً في تاريخ العراق المعماري. فنماذجها التصميمية المبنية جديرة ليس فقط للتأمل، لجهة حلالها المعمارية عالية المهنية، وإنما يتعين الحفاظ عليها كجزء من الموروث، لذخيرة الإرث الثقافي الذي أنجزه العراقيون.
أما في عمارة العراق في عِقدي الأربعينات والخمسينات، فيجد المؤلف أن ثمة أهمية خاصة تتسم بها هذه المرحلة المعمارية، المحددة ضمن الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية الخمسينات... وهذه الفترة ذاتها التي اقترح المؤلف تسميتها «فترة المعماريين الرواد الثانية»، وبدء تأسيس العمارة الحديثة في العراق في مرحلتها الثانية، التي يمكن اعتبارها إحدى أهم وأنصع صفحات تطور الفكر المعماري بالعراق. وتبدو خصوصية هذه العمارة في هذه الحقبة، بالانقلاب الواسع في المفاهيم والتفكير المعماريين لما بعد الحرب بمقارنتها بمراحل أساليب العمارة بالعراق قبل الحرب، على خلق تكوينات متواضعة لمبانٍ بسيطة، وحتى أعمال المهندسين الإنجليز الذين عملوا في تلك الفترة. والحال يختلف جذرياً وراديكالياً عن المرحلة الأخرى لتطور العمارة في العراق.
وخلافاً لعقد الخمسينات الذي اقترن ببدء ظهور وتأسيس وتنظيم الممارسات المعمارية الحديث، فقد اتسم النشاط المعماري في عِقدي الستينات والسبعينات بنضوج وتكثيف الأعمال الإبداعية وتشعبها؛ الأمر الذي اقتضى نشوء تكوينات معمارية معبرة، وحديثة لمبانٍ ومجمعات فرضها واقع متطلبات النمو والتقدم الحاصلين في البلاد عامة، وكذلك ظهور أسماء جديدة في الحياة المعمارية المهنية؛ فقد استطاع النشاط المعماري، أن يعكس بجلاء حقيقة النمو الديناميكي، والأوجه المتعددة والمتشعبة لسبل التقدم والازدهار التي مر بها العراق.
أما العمارة في الثمانينات وما بعدها، فقد انطوت على مفارقة حقيقية، ففي حين بدأت سنوات الثمانينات بداية موفقة وواعدة ومليئة بالآمال لتحقيق إنجازات معمارية مرموقة، فإن نهايتها كانت خاوية من أي نشاط معماري مميز. لقد شهدت بداية الثمانينات، على سبيل المثال، تصميم وإنشاء قصر المؤتمرات للمعماري هيكي سارين، وإعادة إعمار جانب الكرخ وكذلك شارع حيفا، ثم المشروع الطموح لإعادة إعمار منطقة باب الشيخ، وغيرها من المشاريع المعمارية المهمة. وقد شهدت هذه الحقبة تنظيم وتحقيق المسابقة المعمارية العالمية لتصميم مسجد الدولة.
المصدر: الشرق الأوسط