الكاتب الإيرلندي دونال ريان: أكتب لأحكي ألم المقهورين
على خطى كتّاب إيرلندا الكبار أمثال جيمس جويس وصامويل بيكيت، وأهم كتَّاب القصة الإيرلندية القصيرة وليام تريفور، يشق الروائي الإيرلندي دونال ريان طريقه نحو تجربة إبداعية متفردة ومعاصرة، تستكمل البحث في السؤال:
«ما الذي يعنيه أن تكون كاتباً إيرلندياً، عالمياً، إنسانياً، في الوقت ذاته». في الحوار التالي الذي أجرته جستن جوردان محررة «ذي غارديان»، يجيب ريان عن هذا السؤال وغيره من الأسئلة التي تهم القارئ،.
مؤكداً أن القصص الواردة في روايته «من بحر ضحل وهادئ» هي في غالبيتها مقتبسة من عناوين كانت قد وردت في صفحات الأخبار، وأنه يتأمل الشخصية التي يكتب عنها كثيراً ثم يعطيها كل ما لديه من مواصفات ضرورية لتظهر بالشكل الذي هي عليه، ومن هنا فإن بطل الرواية فاروق هو الكاتب في الحقيقة.
الحوار
صعد الكاتب الإيرلندي دونال ريان إلى الشهرة فور نشر باكورة أعماله الروائية «القلب اللولبي»، كانت الرواية تجسيداً حياً للمعاناة التي خلفتها أزمة الانهيار المالي لدى اجتياحها قرى الريف الإيرلندي، وعبرت عنها 21 شخصية اختارها المؤلف ليفوز بجائزة «ذي غارديان» لأفضل الكتب لسنة 2013، وليظهر اسمه في القائمة الطويلة للأعمال المرشحة لجائزة «مان بوكر».
روايتان أخريان ومجموعة قصصية تلت سريعاً هذه الأعمال، وكلها تدور حول الأحداث التي شهدتها تلك القرية المتخيلة، إلى جانب أحداث مشابهة أخرى شهدتها أماكن عدة من ريف «ليمريك» و«تيبراري». تلك الأحداث الاستثنائية تقع ما بين أعوام الطفرة التي عرفت بـ«سلتك تايغر»، وما كان يعرف بتجربة «المسافرين الإيرلنديين»، وهي أحداث لا تزال ماثلة في نفوس أبناء هذه المجتمعات.
قوارب الموت
غير أن رواية ريان الخامسة «من بحر ضحل وهادئ» تبدأ أحداثها بقصة مختلفة، هي قصة «فاروق» الطبيب السوري الذي يغادر برفقة زوجته وابنته موطنَه إثر اندلاع الحرب، بحثاً عن مكان آمن في بلاد الغرب. وفي الطريق إلى هناك يكتشف هو ومن معه في وقت متأخر أن القارب الذي تتكدس بداخله عشرات العائلات البائسة ليس له قبطان.
ولا توجد على ظهره سترات نجاة، ثم فجأة تهب العاصفة. ريان كان قد استوحى هذه القصة، كما يقول، من تقرير صحافي نشر حول قصة طبيب سوري كان قد دفع لأحد المهربين مبلغاً من المال مقابل الخروج من بلاده، وبعد ذلك فقد أسرته في عرض البحر.
يبدأ ريان حواره بهذه العبارة: «لقد حدث ذلك بالفعل، غرق القارب. وما تتحدث عنه الرواية هو وقائع حقيقية». وبينما نقرأ في الرواية أن فاروق، هذا الرجل الذي تعرض للصدمة يتنقل بين مخيمات اللاجئين، عاجزاً عن التغلب على شعوره بالفقد، فإن فاروق الحقيقي قد التحق للعمل في أحد مستشفيات اليونان كجراح أعصاب.
يستأنف: والواقع أنه ورد في التقرير أنه أفصح عن المكان الذي كان يمضي فيه معظم أوقات إجازته من العمل، كان يحملق في مياه المحيط، لكونه مقبرة عائلته.
وعلى الرغم من أن ريان كان قد شعر بالالتزام تجاه تلك الحادثة، بالكتابة عنها، وكان حريصاً على الاستماع إليها، وإعادة الاستماع مرات ومرات حتى توصل إلى الكيفية المناسبة لسردها، إلا أنه كان يشعر أيضاً بنوع من الصراع الذي يكبر في داخله، يضيف قائلاً: لقد استلهمت موضوع روايتي من معاناة هذا الرجل الذي يعيش بيننا، وحديثِه عن تلك المأساة التي تفوق القدرة على الوصف.
لقد كنت أشعر بضرورة الالتزام تجاهه وتجاه الآلاف ممن يعيشون تحت وطأة الظروف ذاتها، وضرورة أن أتكلم عن معاناتهم على نحو واقعي قدر المستطاع.
ملاذات آمنة
قبل وقت قصير من كتابة روايته، كان ريان قد فرغ من تأليف دراما إذاعية بعنوان «أبحث عن لجوء»، يعلق ريان على هذه الجزئية بقوله: «الواقع أنني مهموم بأحوال الناس الذين يطوفون العالم في محاولات يائسة للبحث عن ملاذات آمنة، وفي المقابل ردود الأفعال التي يواجهون بها من قبل الغرب.
والحقيقة أننا نقوم بإعادة إجلاء تسعة أعشار العدد الذي يصلنا من طالبي اللجوء باعتبار أننا عاجزون حتى عن توفير ما نحتاجه لأنفسنا، فكيف نكون قادرين على الوفاء باحتياجاتهم. يبدو لي أن العالم من حولنا بات يفتقد هذه المشاعر بالتعاطف مع الآخرين، وتقمص مشاعرهم».
يعترف ريان بأن القصص الواردة في الرواية في غالبيتها مقتبسة من عناوين كانت قد وردت في صفحات الأخبار التي تنشرها الصحف بشكل أو بآخر، فإن فاروق هنا هو أنا في الحقيقة. إنني أتأمل الشخصية كثيراً ثم أعطيها كل ما لدي من مواصفات ضرورية لتظهر بهذا الشكل. الصحيح أننا نعرف أنفسنا جيداً، وهو ما يمكن اعتباره ممارسة غريبة بالنسبة للكثيرين.
طمأنينة
دونال ريان من مواليد منطقة «تيبراري» الإيرلندية سنة 1976، وهو ينتمي إلى مجتمع مترابط اجتماعياً كالذي يكتب عنه باستمرار، والده كان مدرباً في قيادة السيارات، وعملت أمه وهو في سن مبكرة في دار للنشر. يقول عن ذلك: «كان عملاً رائعاً بالفعل، فقد مكنها من فرض النظام في بيئة لم تكن منظمة».
يضيف ريان أن والده كان يبحث عن الشعور بالراحة من خلال جلساته الروحانية. وفي تلك الأوقات يقول: «كنت قد وجدت ضالتي، في أن أكون مرناً وطيباً من الداخل، متصفاً بالصفات التي تقربني من الناس أكثر. كان جوهر إيماني هو طيبة القلب واللطف، وهي أشياء اختفت اليوم».
أما أخته الكبرى وأخوه الأصغر فقد عملا في الخدمة المدنية والسلك الشرطي، ونشؤوا جميعاً في منزل محب للأدب، وهو يتحدث عن تلك المرحلة قائلاً: «كان والداي يجلبان الكتب بأعداد هائلة، سواء كانت كتباً جديدة أو معروضة للبيع في المزاد أو غيره، كانا حريصين على أن نصبح مثقفين، وكنا نقرأ كل ما ينشره كتّاب منتصف القرن العشرين أمثال «همنغواي» و«ستينباك» و«بيلو» لقد قرأنا لهؤلاء في سن مبكرة.
ومما ذكره لنا أن منزلهم كان مليئاً بالقصص التي يمكن أن يحكيها عن أهله. يقول: جدتي لأمي كانت داهية وذكية وخفيفة ظل، ووالداي كانا قاصَّين ماهرين، فعلى الرغم من أن القصة لديهما لم تكن لتحتوي على ذلك القدر من المنطق، إلا أن سردها كان يكفي لأن يكون مصدراً لشعورنا بالبهجة والسعادة.