Skip to main content
القاهرة إطار زمان ومكان لروايات جمال محجوب البوليسية

نعرف الكاتب السوداني جمال محجوب من سبع روايات كتبها بالإنكليزية ووفّرت له انقشاعاً ليس فقط في إنكلترا حيث وُلد عام 1966 ويعيش حالياً، ولكن أيضاً في فرنسا حيث تُرجمت هذه الروايات وصدرت عن دار «أكت سود». لكن ما لا يعرفه معظمنا هو أنه انطلق عام 2012 بكتابة روايات من نوعٍ آخر، بوليسية، تحت اسم باركر بلال فوضع إلى حد اليوم أربعة أعمال في هذا النوع، آخرها «الأبواب المحترقة» (2015) الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «سوي» بعنوان «القاهرة، ستار خلفي».


وفي هذا النوع البوليسي، حدّد محجوب هدفاً واضحاً له: وضع عشرة أجزاء من سلسلة روائية تصوّر المرحلة الحديثة من تاريخ مصر التي تقع بين عام 1998 الذي وقع خلاله الاعتداء الإرهابي في مدينة الأقصر، وعام 2011 الذي انطلقت فيه الثورة الشعبية التي أطاحت حكم حسني مبارك. مرحلة قصيرة شهد هذا البلد فيها أحداثاً واضطرابات كثيرة إثر وقوعه بين مطرقة «الإخوان المسلمين» وسندان النظام الليبيرالي الفاسد. ومَن يقرأ الأجزاء الأربعة الأولى من هذه السلسلة يستنتج بأن محجوب نجح إلى حد الآن في بلوغ هدفه. ولا شك في أن ذلك يعود أولاً إلى الشخصية الرئيسية الثابتة فيها، ماكانا، التي ينزلق الكاتب تحت جلدها بيُسرٍ قد تفسّره بعض العناصر السيرذاتية المشتركة بينهما.

فمثل الكاتب الذي نشأ في الخرطوم (بعد ولادته في لندن)، قبل أن يضطر مع عائلته إلى الانتقال إلى القاهرة إثر الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال عمر البشير عام 1989، نعرف من الجزء الأول أن كامانا، مفتش الشرطة، اضطر أيضاً إلى مغادرة وطنه بعد الانقلاب المذكور إثر تهميش دور عناصر الأمن النظامية لمصلحة ميليشيات النظام الجديد. لكن قبل رحيله، اختبر السجن والتعذيب على يد رقيب كان يخدم تحت أمرته لرفضه الأمر الواقع الذي فرضه هذا النظام.

وفي القاهرة حيث استقرّ، نراه في الأجزاء الأربعة يمارس مهنة محقق خاص ويعيش على «عوّامة» (مركب) قديمة مركونة على إحدى ضفتيّ نهر النيل، وتتسلّط عليه صورة انحراف السيارة التي كانت تقلّ زوجته وابنته نصرة إلى خارج السودان، وسقوطها من جسر عالٍ. ولكن هل أفلتت نصرة من الموت بأعجوبة وما زالت تعيش في السودان؟ سؤال يقضّ مضجع كامانا على طول الأجزاء الأربعة من دون أي يلقى جواباً، ما يفسّر الجرح العميق الذي لا يلتئم داخله، وبالتالي حساسيته الشديدة وقدرته على التعاطف مع الآخرين، وما يجعل منه شخصيةً آسِرة بطبيعته الكئيبة الطيّبة وأيضاً بالنظرة الساخرة والبصيرة التي يلقيها كغريب على مجتمعٍ (المصري) يشهد تحوّلات عميقة.

في الجزء الأول، «الحراشف الذهبية» (2012)، يرجع محجوب إلى نهاية التسعينات لوضع ماكانا في مواجهة مع رجل أعمال فاسد ومقرّب من السلطة، ما يسمح له بتناول تلك الفترة التي تشتدّ فيها قبضة نظام مبارك على المجتمع المصري إثر تنامي نفوذ «الإخوان المسلمين». في الجزء الثاني، «جرائم طقوسية في إمبابة» (2013)، يذهب الكاتب ببطله إلى حيّ إمبابة في القاهرة بعدما أصبح معقلاً لـ «الإخوان المسلمين»، من أجل حلّ لغز سلسلة جرائم، مصوّراً في طريقه الصدام بين الحركة المذكورة والأقلية القبطية في هذا الحيّ، وأيضاً قدر آلاف الأطفال الذين يعيشون في شوارعه. وفي الجزء الثالث، «العدّاء الشبح» (2014)، نبقى في القاهرة لكن ننتقل إلى عام 2012 الذي شهدت هذه المدينة فيه تظاهرات ضخمة ومناصرة للفلسطينيين إثر محاصرة الجيش الإسرائيلي رام الله، قبل أن نتوجّه مع ماكانا إلى واحة سيوة لحلّ لغز مقتل شابة تم حرقها حيّة. مناسبة يغتنمها محجوب لوصف جمال هذه الواحة وكشف الغرابة المقلِقة لطائفة منطوية على أسرارها ويتأرجح أبناؤها بين الحداثة وعنف تقاليدهم.

أما مغامرة ماكانا الرابعة فتنطلق عام 2004، بعد 18 شهراً من الاجتياح الأميركي للعراق. وبسبب هذا الاجتياح، نرى شوارع القاهرة تغلي بالغضب، لكن من دون أن يمنع ذلك المحيط الفني فيها من متابعة نشاطه المشبوه. وفي هذه الأجواء المشحونة، يسعى تاجر فن يدعى آرام كسّابيان إلى وضع يده على لوحات ثمينة اختفت خلال الحرب العالمية الثانية، ومن بينها لوحة للفنان التعبيري الألماني فرانز مارك يتبيّن بسرعة لنا أن كولونيلاً عراقياً يدعى كاظم السمري سرقها في الكويت أثناء احتلال الجيش العراقي هذا البلد، قبل أن يعبر بها سرّاً إلى المصر بعد سقوط صدام حسين. ولذلك، يوكل كسّابيان ماكانا بمهمة العثور على هذا الكولونيل ـ الجلاد الذي وضع الأميركيون اسمه على لائحة الهاربين المطلوبين نظراً إلى الجرائم الرهيبة التي ارتكبها في العراق. وبالتالي، بدلاً من أحياء القاهرة الفقيرة، نرى ماكانا ينشط هذه المرة على أرضية محتالين ومجرمين على نطاق واسع، أي في نوادي المدينة وفنادقها الفخمة، قبل أن ينقلب تحقيقه رأساً على عقب حين يتدخّل رجال سياسة ومخابرات كبار وفاسدون فيه ويعملون على كبحه. وبما أن ماكانا لا يهاب أحداً، ولا شيء قادر على إفقاده عزمه على متابعة تحقيقٍ بدأه، لن يلبث أن يجد نفسه في مواجهة مع أخطر حثالات الجنس البشري.

وتشدّنا هذه الرواية بإيقاع أحداثها السريع وواقعية مشاهدها الشديدة التي تتجلى خصوصاً في وصف محجوب مختلف شرائح المجتمع المصري بفجاجة لا مواربة فيها، وفي النظرة الباردة التي يلقيها سواء على سوق الفن في مصر والناشطين فيه أو على المرتزقة الأميركيين الناشطين في شرقنا والذي باتوا أكثر قوّة وخطراً من الدولة التي توظّفهم.

تشدّنا الرواية أيضاً بحبكتها المتينة وعنصر الإثارة الموظَّف بمهارة فيها ولغتها الأنيقة والسيّالية، وخصوصاً بموهبة صاحبها في رسم شخصياتها بدقّة مدهشة تمنحها تعقيداً وحيوية كبيرتين. شخصيات تتراوح بين شريرة وعنيفة، مثل الأميركي المرتزِق كاين والعراقي السمري، وطيّبة ومسالمة، مثل ماكانا طبعاً ولكن أيضاً سائقه سندباد الذي يتنقّل به في العاصمة المصرية على متن سيارته القديمة ويبدي تعلّقاً مؤثّراً بهذه السيارة يجعله يتألم حين يضطر إلى استبدالها بأخرى؛ والشابة الجميلة بلقيس التي تعرّضت وهي طالبة لاغتصاب جماعي على يد مجموعة من رجال الشرطة لمشاركتها في مظاهرة سلمية، وباتت تعمل مومساً في نادٍ ليلي من أجل تربية طفلها الذي جاء ثمرة هذا الاغتصاب. شابة توقظ في ماكانا ماضيه وشعوره بالذنب لعدم تمكّنه من إنقاذ زوجته وابنته، ولذلك يسعى عبثاً وبجميع الوسائل إلى إنقاذها.

وفي حال أضفنا على هذه الشخصيات مدينة القاهرة التي تحضر في هذا العمل، كما في الأجزاء الثلاثة السابقة، كشخصية روائية مستقلّة ومركزية عبر الوصف السينماتوغرافي لشوارعها وأحيائها وناسها، ما يجعلنا نتآلف مع ألوانها وروائحها وأجوائها ومختلف وجوه الحياة فيها، لتبيّنت قيمة هذه الرواية التي تخفي مفاجأة كبيرة في نهايتها تجعلنا نترقّب بفارغ الصبر الأجزاء اللاحقة.

04 Jul, 2018 10:42:02 AM
0

لمشاركة الخبر