رواية السوداني عبدالحميد البرنس: صناعة الدكتاتور بمسحوق الوهم
يمكننا أن نبني تصوراتنا الخاصة بموازاة المطروح داخل إطار المشهد الروائي الذي يصنعه الكاتب السوداني المقيم في أستراليا عبدالحميد البرنس في روايته الأولى «السادة الرئيس القرد» (ميريت)؛ ذلك المشهد الطويل ككابوس؛ والمؤثر حدَّ البكاء والموزَّع على مجموعة مقاطع يفضي بعضها إلى بعض. تلك المقاطع التي تسعى فى حركتها الظاهرية نحو مغازلة واقع، يتجلى حضوره من خلال الحفر الدؤوب في بنية الوعي لدى الشخصيات مستخرجاً هواجسهم الملعونة التي تصبح هي محور حيواتهم، على رغم أنهم يتحلقون حول شخصية «حمو» (الطفل الشيطان) الذي سيعتلي في النهاية سدة الحكم، ويحصل على لقب «الرئيس القرد»، علماً أن الرواية مكرّسة لآليات صناعة الديكتاتور، إلا أن الكاتب استبعد حضوره - ليظل مثل كتلة غامضة تلفها الألغاز وتدور حولها الحكايات - قدر الإمكان مستنهضاً في الوقت نفسه الأحداث المحايثة لميلاده والمتزامنة مع تطور وعيه، واختلافه عن معاصريه (من وجهة نظرهم المبالغ فيها) لدرجة رفضهم له بسبب هذا الاختلاف المزعوم. فنطالع الداية القانوية «أم سدير» التى تفتتح الرواية برؤيا هي عبارة عن رسالة يحملها شخص غريب ناقلاً إياها عن «الشيخ أحمد الطيب البشير السوداني». وقفت «أم سدير» أمام هذه الرؤيا متأملة بِركة دم تخرج منها أياد بشرية مقطوعة، من بداية الرواية إلى نهايتها، وظلت هذه المرأة مع شخصيات أخرى؛ تدعم - تحت رقابة أجهزة الأمن- الخرافات حول شخصية الطفل الشيطان/ حمو/ الرئيس القرد.
ومِن هذه الشخصيات «شامة العجيلة، حليمة الأنصارية، سماح ابنة شامة»، ومعهن «حسين الضاحك»، و «حسن الماحي»؛ الذى حصل بعد خروحه من المعتقل على لقب «ذيل القرد الماحق». هذه الشخصيات تستكمل أدوار شخصيات أخرى لتدفع بعجلة السرد في الاتجاه الكابوسي/ الواقعي/ المتخيل. فـ «حسين الضاحك» اشُتهر بضحكاته المبالغ فيها على نكات «الرئيس صانع البهجة»، وأنه في إحدى المرات تغافَل ولم يضحك على نكتة الرئيس، فاتبعته عربة «الأمن القومي»، على رغم تنكره في هيئة امرأة خوفاً من القبض عليه، وكادت تعتقله، أما هو فقد حاول استرضاءهم فأخذ يضحك في شكل مبالغ فيه، ليعلن لهم بهجته الزائفة. إلا أن رجال الأمن لم يهتموا بهذا، بل وجهوا له الأمر بأن يذهب إلى المقهى الذي كانت تذاع فيه نكات الرئيس ويضحك أمام الناس هناك. ولعل عدم اهتمامهم بخنوع «الضاحك» أمامهم تحمل دلالة عميقة، على ضرورة الانبطاح الجمعي لتلك المجتمعات، وأن يتوغل الناس في الانحناء حتى يصير مرضاً لا شفاء منه.
أما شخصية «حسن الماحي»؛ نموذج المثقف، فلم تبرح وعيه خرافة (حمو)، الذى يمتلك عيناً ذات أسنان، مكّنته من التهام فراشة... «أترى يا عم هذه الفراشة الميتة الآن على كف يدي؟ قال حسن الماحي: نعم أراها. ولم يعتقد حسن الماحي حتى تلك اللحظة أنه يتحدث في الواقع العياني إلى الشيطان الرجيم صاحب الحيل الألف وسبعمئة نفسه. تابع الطفل حديثه ذاك بالبراءة الممنوحة عادة لمن هو في مثل عمره: سآكلها، هذه الفراشة الصفراء. أعني بعيني» ص 79.
وعلى رغم أنه نقل فزَعَه مما رأى إلى زوجته «شامة»، إلا أن «حسن الماحي» ظل يخشى الهروب إلى مدينة نيالا النائية، وفق إلحاح زوجته؛ بسبب قناعته بأنه سيلقى حتفه هناك كما أوحت له أمه منذ الصغر، ففضّل الموت هنا على الموت هناك. «حسن الماحي» الذي جسّدت حياته أزمة المثقف تجاه السلطة، يستكمل مسلسل الخوف المطلق والخضوع الآمن لجبروت رجال الأمن، فنراه يستسلم لهم، ليقبع في السجن سنوات عدة، حمَلَ بعدها لقباً دالاً على الخضوع التام: حسن ذيل القرد الماحق. والسلطة لم تطلق الماحي إلا بعد أن تأكدت من ذهاب عقله إلى الأبد، لتأمن الشرور المترتبة على وعيه في عهد الرئيس القرد. وهكذا تشق هذه الرواية طريقها بجرأة وتحدٍ، مخترقة الأنساق الكلاسيكية المتعارف عليها في التقاليد الروائية صانعة أطروحاتها الجديدة على يد كاتب مجدد. ولأن كتابة رواية أصعب من بناء كاتدرائية كما ذكر السابقون، ما يؤكد صعوبة البناء ودقته، وأهمية إبراز الفنيات الداخلة في تشكيل الصورة النهائية من الرسوم والنقوش الملهمة، يمكننا أن نقول إن البرنس تمكّن بجدارة من تشييد بناء روائي فريد، اعتمد فيه على تفتيت المشهد إلى شظايا صغيرة بعدما قام بتحليلها واستقراء أبعادها الدلالية من خلال قراءة وعي الشخصيات التي تؤمن فتصدق بوجود ثعالب طائرة تلتهم رؤوس المسافرين إلى مدينة نائية تدعى «نيالا». هذا بالإضافة إلى ورود أسماء الشخصيات كاملة مثل «الداية القانونية أم سدير»؛ أو بصفاتها الجديدة مثل «حسن ذيل القرد الماحق»، إلى جانب تظليل بعض المقاطع أو الجمل القصيرة بالحبر الثقيل الذي من شأنه خلق تنويعات سردية تحمل الكثير من الإشارات الدلالية. بالإضافة إلى الاستعانة ببعض المراجع المدرجة فى نهاية الرواية مثل كتاب «تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان»، و «سيرة ولي الله أحمد الطيب بن البشير السوداني». هذه التقنيات أضافت إلى السرد رؤى جديدة ساهمت في إيهام القارىء بواقعية أحداث الرواية التي تتحرك أحداثها في مسارين هما: صناعة الخرافة حول شخصية «حمو» وانسحاق الشخصيات من قبل سلطة الأمن القومي. يتقاطع المساران كثيراً؛ لكنهما في لأحوال كافة يؤديان إلى نتيجة واحدة، هي صناعة شخصية «الرئيس القرد»، بعد «الرئيس صانع البهجة»، و «الرئيس العابر». وفي سخرية لاذعة تعد سمة هذا العمل، نجد مثلاً الناس في عهد «الرئيس القرد» يفضلون التنقل داخل المدينة - تخلصاً من الزحام! - بالقفز على فروع الأشجار، تماشياً مع فكر المرحلة (القرداتية) المتفشية فى المجتمع. ومما ساعد على إبراز المشهد الروائي الطويل؛ استخدام الكاتب المتميز للوصف؛ «رانَ بعدها، صمتٌ مُفخّخ بالتوقع اليائس والتساؤلات الداخلية المشخونة بالتوتر، داخل الغرفة الغارقة في العتمة، من قبل أن يتهشم بصوت عربة طوارئ مسرعة، كان قد تناهى، بالتزامن مع عودة شامة الصامتة من المطبخ، حاملة فى يدها زجاجة وقود، لتضخ منه داخل مصباح الكاز الصغير، الذي أخذت شعلته تبهُت منذ مدة، كشمس غاربة من وراء كثبان رملية» ص31. ذلك الوصف الذي لا يحفل به آخرون، يظل حاملاً قدرات غير عادية من التخييل الفني، اتكأ عليها عبدالحميد البرنس في إيهام القارىء بواقعية متخيّلة، وشخصيات مصنوعة بدقة كي تنهض بحمل رسالة فنية ودلالية تعني؛ كما ورد بعد انقضاء تلك العهود في مذكرات سماح ابنة شامة الجعيلة وحسن الماحي، أثناء إقامتها فى مدينة كندية كمهاجرة مِن عالمٍ آخذٍ في الاندثار؛ هو عالم رواية «السادة الرئيس القرد». تسجل سماح ما دار هناك، بينما الرئيس القرد (حمو) رفيق صباها لا يتوقف عن البحث عنها بغية استعادتها، ليستعيد صباه ومن ثم زمانه الغابر.