بهية طلب تختار الشعر بديلا من ضيق العالم وقسوته
ثمة أحبة متنوعون في ديوان «طرق فاشلة لاستعادة الأحبة» للشاعرة المصرية بهية طلب (الهيئة العامة لقصور الثقافة- القاهرة). وعبر مجموعة من المقاطع الشعرية التي تنهض على آلية التداعي الحرّ، هذا التداعي الشفيف الذي يبدو هامساً حيناً، ومسكوناً بصخب مكتوم حيناً آخر، نرى حضوراً لأحبة تقليديين، يحيلون على رمزيات معهودة، من قبيل (الأب/ الأم/ الحبيب)، أو يشيرون إلى أصدقاء غائبين، رحلوا صوب وجهة أخرى، رحيلاً حقيقياً أو مجازياً، لتتسع دلالة الاستعادة هنا لأولئك الأحبة، وتخرج من الدلالة المادية المتعينة إلى دلالة معنوية ومجازية أيضاً.
يعدّ عنوان الديوان مجتزأ من مقطع شعري تستهله الشاعرة بالنفي، وصولاً إلى الإثبات المشغول بتأكيد الحضور لذات لم تزل تلعب مع العالم، فتواجه قبحه وعتامته وقسوته، ذات شعرية تقرر الفعل بدلاً من ذلك الانتظار المميت: «لا أبكي خلف باب مغلق/ ولا أمام حبيب/ هذه الطرق الفاشلة لاستعادة الأحبة/ والقنابل الموقوتة للرجفة/ لا أخبئها تحت ثيابي/ هذه أنا/ سألتهم ما تيسر من الشيكولاتة/ وأمد يدي في غاباتك السرية/ وأعرف كيف انهمرَ عطرك غزيرا لتجرف كل هؤلاء النساء في طريقي/ وأدور وأرقص وأغني/ وأنا أحرق كتابك السحري للغواية» (ص92).
تتواتر القصائد في الديوان على نحو متتابع، فلا أرقام للمقاطع الشعرية ولا عناوين لها، والبنيات التي تبدو مفككة بين مقاطع الديوان؛ لتشكل جوهراً للمسار الشعري للقصائد التي تبدأ بآلية السؤال: (هل للنساء غير القهوة؟!)، وتنتهي بآلية الاحتمال: (لو مات عمي في الحرب). وبدءاً من الاستفهام المشوب بالحسرة والاستنكار والتعجب من المآلات المفتوحة على دراما حياتية مضطربة دوما، إلى محاولة تقليب الأمر على كافة وجوهه المحتملة في النهاية. وما بين المفتتح الشعري والمختتم، ثمة وحدات موضوعية تتواتر في الديوان «الحزن والفقد والوحدة». ثلاث وحدات مركزية تسكن الديوان، وتبدو تمظهرا لجملة من المخاوف الحياتية والهواجس الإنسانية المشروعة عن الموت، والمرض، وضراوة العالم وحِدّته اللانهائية: «كنتُ في الحلم بائعة الكبريت التي بلل المطر أعواد ثقابها/ لا ضوء هنا/ لا دفء هنا/ المجد للخوف والحزن والوحدة» (ص101).
في «طرق فاشلة لاستعادة الأحبة» يصبح تمجيد الألم جزءا من مجابهته، هذا الألم الذي ينهش في الجسد، وفي الروح أيضا. وحيث لا يصبح الصراخ حلاًّ، وإنما يُوَلّد الصراخ ألماً جديدا، ينتج شيئاً مشوباً باللاجدوى، تلك التي تقاومها ذات شعرية مسكونة بالأمل، تمارس التكيّف الاجتماعي مع سياقها المحيط، والتصالح الفردي مع العالم، وتبتعد بمسافة عن مجرى واقع طاحن لشخوصه، فتبدو القصيدة هنا علامة على موقف احتجاجي من العالم، لكنه ليس احتجاج الأيديولوجيا وهي تزعق في متلقيها، وإنما المساءلة الجمالية التي يصنعها الفن الحقيقي حين يقرر أن يفتح الأبواب المغلقة، ويعيد تشكيل الأشياء، حيث تلتحف الذات الشاعرة بقصيدتها في مواجهة العالم، فتصبح القصيدة ونسها، وألفتها المنسية، ورحبتها التي تتسع كلما يضيق العالم أكثر. هنا الأعداء فقط هم من يفتشون في ضمائرنا، والشعراء لا يحبون من الجنازات سوى الجنازات العادية، ويقتاتون على الأمل، مدركين أن العصفور لم يزل قادرا على الطيران.
تتسع مساحات التخييل الذاتي في النص، وتخلق دوائر تلاقيها ووحدتها في آن، وتصبح شعرية التفاصيل مهيمنة في مواضع عديدة، وتلجأ الشاعرة إلى توظيف الصور الشعرية المركبة بأبعادها البصرية والبيانية والفنية المختلفة: «أخبرتَني/ أن فِيلاً بلون ثلجي يستحم بالغرفة المجاورة/ كنتُ غير قادرة على تنظيف كل هذه الفوضى التي تركتها خلفك/ من الرخام المتكسر مني/ فأرسلتُ الببغاء لتأتي لنا بخبر/ فوضعت بيضها هناك ولم تعد/ عليّ في الصباح أن أذهب للتزلج/ متعتي الوحيدة في هذا القيظ/ بجهاز حديدي ستصمد قدماي كما تعودت/ وأبدأ في دهس الجليد/ والتبسم لصفعات الهواء فقط» (ص32).
ثمة قصائد قصيرة جداً في الديوان تمثل ثلث متنه الشعري تقريبا، بدءاً من صفحة 36 وحتى صفحة 71، وتعتمد في بنائها الفني على آلية المفارقة المجازية (إلى متى أظل أمشي كغيمة معبأة بقصيدة ولا أمطر)، أو تتكئ أحياناً على آلية التخييل الذاتي، حيث تصبح الذات جوهرا للتخييل الشعري، ويصبح اللعب معها، أداة لاستحضار المعنى الغائب: «وكان اسم جدتي شوق/ لم تزرع في ممرات روحي الشاسعة إلا عذاب اسمها» (ص50).
ويتسع اللعب مع الذات في الديوان، تلك التي تصير بهية، أو حناناً، أو هنداً، أو الغالية ماء العين، أو بسمة التي تمنت أن تكونها حتى تواجه حزناً مقيماً، وتبدو الذات الشاعرة ممزقة وموزعة بين سياقات مختلفة، وعوالم من الأرق والدهشة والرفض والسؤال تدفع جميعها باتجاه معاينة عالم يقف على شفا الجرح، والألم، والخراب. تبدو الكتابة هنا أداة للمقاومة عبر الحكي الشعري، الذي تنفض من خلاله الذات الشاعرة عن نفسها غبار الألم والمرض والقسوة المحيطة بها دوما: «ليس لديكم معلومات كافية عني/ أنا أخاف الألم/ ليس لأنه يتبعني دائماً/ بل أكتفي بما يصلني منه/ ولا أهرب من قدري/ فمثلاً كنت أكمل رحلتي مع الشلل/ سنوات طويلة منذ بدء طفولتي/ وشهور ملفوفة بكاملي في الجبس لرتق عظامي» (ص106).
تغالب الذات الشاعرة مخاوفها، وتعاند واقعها بالتعريف المكلل بملامح الوجود حين تقول «اسمي بهية»، أو حين تلجأ للصيغة الطلبية، عبر توظيف الأسلوب الإنشائي ممثلا في فعل الأمر «احزني» في جملتها الشعرية اللافتة: «احزني يا بهية/ احزني وأكملي الألم».
في «طرق فاشلة لاستعادة الأحبة»، تنتقل بهية طلب خطوة جديدة في مشروعها الشعري الذي بدأته بديوانها الأول «اعترافات عاشقة قروية»، مرورا بدواوين: «العشق تميمة جنوبية/ تفاصيل ضد... تفاصيل مع/ أيام للموتى/ تاريخ النعامة/ عدسات لاصقة لعبور نهر/ قبل هروب أنجلينا جولي»؛ لنصبح هنا أمام شطآن مختلفة للكتابة، تنهض على المزاوجة بين البوح والاستبطان، التخييل الذاتي والآخر الموضوعي، الفقد والونس المبتغى، الخوف والوحشة، والأمل النبيل أيضاً.