Skip to main content
الشعر على حافة التماس

لا تبحث الشاعرة منال محمد علي عن وردات للذكرى ولا للنسيان، في ديوانها الذي يحمل العنوان نفسه، «وردات للذكرى... أخرى للنسيان»، إنما تبحث أساساً عن مكان تحتمي فيه بذاتها، من مشاعر الخوف والقلق والضجر والإحساس الدائم بالترحال، من فوضى العالم والواقع والأشياء؛ مدركةً أن هذا المكان الحلم، يتشكل بين فضاءين، فضاء الزمن وفضاء الشعر، وأنها في سباق دائم معهما. ويبدو رهانها الأساسي على أن يظل الاثنان حاضرين بطزاجة في شجرة اللغة والحياة.
تكتب ديوانها هذا على مدار عام تقريباً، وهو عام صاخب بتحولاته السياسية غير المسبوقة في وطنها مصر، حيث شهد سقوط جماعة الإخوان المسلمين، بعد صعودها المربك، وتوليها الحكم ومقاليد السلطة في البلاد.
وتحت وطأة الذعر والهلع مما يجري في الواقع، تحاول الذات الشاعرة أن تثبِّت قصيدتها في جدار الزمن، موثّقة لحظة كتابتها باليوم والساعة وطبيعة الوقت مساءً أو صباحاً، لكنها مع ذلك تتغافل المكان: هل كتبتها في البيت، في الشارع، في المقهى، في الحديقة،... إلخ، لكنّ رهانها الأساسي، في ما يبدو لي ليس على المكان، بل على الزمن، فالقصيدة هي بيت نفسها، لا مكان محدداً لها،... ومثلما تقول في ومضة خاطفة بعنوان «وقت الغروب» (ص 8):
«أرسم سطوراً بيضاء...
وأخبِّئ كلماتٍ في جيوبها السرّيّة
وعندما يلوِّح النهارُ بذراعيه كمسافر
أدير رأسي في جَلد
لا أحفل بثمراتٍ بطعم الخَدر
أنا الأميرة النائمة
فوق فراشٍ من ثلوجٍ بيضاءَ
لا تذوب».
إذن تنام القصيدة، أو تحاول النوم، أو تدّعي ذلك، لكن الدم في الشارع، وليس في القصيدة، ولا تملك الذات الشاعرة شيئاً حياله، فقط تخشى أن يطْبق على أحلامها، ويحوّلها إلى كابوس. في واقع أصبح يشبه لعبة الدُّمى، أو الماريونت، كل طرف يحرّكها لصالحه من خلف الستار على مسرح دامٍ.
بالقرب من هذا المسرح الدامي، تبرز لعبة الدُّمى، كإحدى الدَّوالّ المركزية في هذا الديوان، ويتشكل اللعب بها على مستويين فنيين، الأول يسعى إلى ربط الذات الشاعرة بالماضي وأجواء الطفولة، أو ما يمكن أن أسميه فضاء البراءة الأولى، والثاني إقامة نوع من التناظر الشفيف بينها كلعبة، وبين ما يحدث على مسرح الواقع من تطاحن واقتتال. إن الأمر يبدو منطقياً، فاللعب يطول كل شيء حتى التواطؤ والخيانة، لكن الفيصل في كل هذا أن يتحول إلى فن وقيمة، من هنا يمكن أن نفهم أو نبرر ولو بطاقة الخيال، محاولة جعل الدُّمية تنطق وتتكلم، وهدهدتها، كما لو أنها كائن حي، أو بمعنى أدق محاولة «أنسنتها»، حتى تصبح شاهدةً على زمن ما، على لحظة ما، على واقع ما، بل على القصيدة نفسها... هذه الأجواء تطالعنا بنعومة شعرية وفي غلالة رومانتيكية شيقة في نص بعنوان «عروس وبقايا» (ص 13) تقول الشاعرة:
«كانت أمي تصنع عروساً من قماش
تملؤها بحشوات
لم تكن تجتهد كثيراً أن تبدو كالبشر
أرجل ممتلئة
أذرع قصيرة
ورأس مربع
كانت تخيط بعض الشعرات في رأسها حتى لا تبدو صلعاء
ترسم لها عينين وأنفاً ملتفّاً
وفماً صغيراً لا يضحك».
إنه إذن واقع الدُّمية، التي لا تضحك، ولا تنطق ولا تتحاور، ولا تشعر حتى بوخزات الألم، في مقابل الحلم بعمرٍ بلا دُمى، بوطن يعرف أن ثمة وجهاً واحداً للحقيقة، أن ثمة طعماً واحداً للموت والقتل، لكن للجوع ألف طعم.
هكذا تسرِّب الشاعرة بخفة وسلاسة وتحت قشرة لغة هادئة، نبض المشهد السياسي وروائحه الخانقة، مدركةً أنه في الصخب والصراخ لن تصغي إلى صوتها الخاص، إلى مائها الحميم، بل ستصغي إلى صوت الآخرين. إنه مشهد ضاغط وطارد، يحيل دائماً إلى الخلاص بفكرة السفر والترحال، والتي تلوح رمزيتها بقوة في الديوان، عبر المحطات البعيدة، والقطارات التي تأتي ولا تأتي، بينما تنكمش الورود في ركن مهمّش وقصيّ من فضاء الذات، كطاقة بوح وحنين مكبوتة وذابلة، تنتظر صافرة أخرى، أو انشطاراً آخر، يتعانق فيه الصوت والصدى... كما في نص بعنوان «أترية بيضاء» (ص 19)، حيث تصبح الورود معادلاً رمزياً لألعاب الطفولة، وصدى لها، على هذا النحو الهامس:
«الورودُ التي هجرتْ ساقها
وذهبت تلهو بالطباشير فوق الإسفلت
قالت: قدمٌ واحدة تكفي
وراحت تقفز في المربعات
مختلة تحاول الاتزان
ثم هبطت اضطرارياً
باحثة عن ساقها الأخرى...».
من جهة أخرى، وبين مراوغات الزمن والشِّعر، تنمّي الشاعرة هذه اللعبة درامياً باستخدام آلية التماثل والتناظر، لجذب عناصر ورموز ودلالات فنية قارّة في جعبة الماضي، تعيد توظيفها شعرياً بشكل شفيف، على سبيل التناص، بعيداً عن آلية المفارقة التي كثيراً ما تبدو مقحمة على النص بلا مبرر فني، وتعيق انسجامه وخصوصيته الفنية... ومن ثم تتناظر مع رائعة أمير الشعراء أحمد شوقي «نهج البردة»، والتي هي أصلاً تناظُر على سبيل المعارضة لقصيدة «البردة» الشهيرة للبوصيري، يستهل شوقي قصيدته قائلاً: «ريمٌ على القاع بين البان والعلم *** أحلَّ سفكَ دمي في الأشهر الحُرُم»، لكن الشاعرة تجعل عنوان قصيدتها على هذا النحو الساخر «التأرجح بين البان والعلم»... قائلة فيها:
«أُلقي بخيوط الطائرات الورقية... فتبتعد
تتهاوى كل منها بجبل
أناديها
فلا تأتي
أختلسُ النظر في البئر
فلا أجدُ يوسفَ أو ريحَهُ
أجلسُ بنافذتي
أتأمل سطوراً مهتزة
أضع نظارتي
فتعتدل في وقفتها
ربما تريد أن أبدأ حديثاً جاداً
وعليّ أن أبدو كمن يفهم قانونَ التظاهر
وأن أفكر أنه ربما يمنعني من معانقتك».
اللافت هنا أن الذات الشاعرة، لا تضع آلية التناظر في مقابل التنافر نقيضها النصيّ ضدياً، إنما تسعى إلى بناء موقف مغاير وساخر من الماضي والحاضر، موسِّعة الرقعة لتأويل أبعد، تمتزج فيه روح الأسطورة بالواقع، وفي ظل غلالة من السخرية المرّة، فتغادر مقدمة أحمد شوقي الغزلية الطللية، مؤكدة أن الطائرات الورقية تتهاوى، وليس في البئر يوسف ولا حتى ريحه، كما أن المسألة ليست في عدم فهم قانون التظاهر، إنما المسألة، في نور يخبو ويذبل في الداخل، حيث تخشى الذات الشاعرة ألا يمنعها هذا القانون من معانقة حبيبها. لذلك لا بأس من أن تعيد تدوير المشهد من زوايا ورؤى مختلفة... وهو ما يتجسد في النص عبر محاولة أولى وثانية وثالثة... لا تنتهي على نحو محدد، بل سوف تتكرر وتتناسل المحاولات بحثاً عن لعبة آمنة ومستقرة، كما تقول الشاعرة:
«أبحث عن علب مناسبة
ولغة تجيد الاختباء
لأمارس لعبتي المفضلة
وأضحكُ
حيث لا أحد».
هذا الهمّ مبثوث في معظم قصائد الديوان بأناقة مخيلة، وشعرية هادئة، ورمزية موحية، تسعى إلى أن تكون مكتفية بذاتها، لا تحتاج إلى وسائط للمعنى، أو للحياة. إنه همٌّ أشبه بثمار ترتعد، كما تقول الشاعرة في قصيدة رائقة بالعنوان نفسه «الثمار ترتعد» (ص 43).
لكن، ما أقسى أن يرتبط الضحك بالفراغ، ما أقسى أن يصبح مرثية للفرح. إن الوحشة والفقد والحنين، بل إن الألم، ليست مجرد مشاعر اعتباطية أو مجانية تفيض بها الذات للترويح والتنفيس، إنما هي في هذا الديوان الشيق الممتع معاول صغيرة للإحساس بالزمن حتى يتحول إلى بيت للذات والأمل، وحلم دائم، مفتوح بحيوية وحرية على قوسَي البدايات والنهايات.

10 Sep, 2018 09:09:51 AM
0

لمشاركة الخبر