من هم الفينيقيون؟
ثمة دراسة جديدة تتساءل إن كانت الثقافة الشرقية المتوسطية الفينيقية تتميّز بلغة أو تراث ثقافي متجانس، وإن كان أيّ من الشعوب المتوسطية القديمة قد عرّف عن نفسه بأنه فينيقي.
الشعب الذي عرفه التاريخ باسم الفينيقيين احتلّ مساحة ضيقة من الأرض على طول سواحل سوريا الحديثة ولبنان وشمال إسرائيل.
يشتهر الفينيقيّون ببراعتهم التجارية والبحرية وببنائهم الموانئ والمراكز التجارية والمستوطنات في حوض المتوسط. مع ذلك، فإن افتقارهم إلى منطقة معروفة أو لغة متجانسة أو تراث ثقافي مشترك يعني أنه على الرغم من كونهم من أكثر شعوب المتوسط نفوذًا في الألفية الأولى قبل الميلاد، فإن هويتهم بقيت غامضة فترة طويلة.
كتاب جوزفين كوين "بحثًا عن الفينيقيين" In Search of the Phoenicians (المكون من 360 صفحة؛ منشورات جامعة برينستون؛ 27 جنيهًا إسترلينيًا) يأخذ القارئ في سعي مبهج إلى اكتشاف المزيد عن هذا الشعب المبهم. ومن خلال استخدام مجموعة مذهلة من الأدلة، يدرس الكتاب بناء الهويات من قبل الفينيقيين، من الشرق الأوسط إلى إيرلندا، ومن العصر البرونزي إلى أواخر العصور القديمة وما بعدها.
لا أدلة قاطعة
نقطة انطلاق الكتاب هي تأكيد عدم وجود أدلة قاطعة تدعم الفكرة القائلة إن الفينيقيين عرّفوا عن أنفسهم على أنهم مجموعة عرقية واحدة، أو كوّنوا مجموعة مستقرة.
غير أن كوين تجادل ضدّ فكرة اعتبارهم مجرد سراب تاريخي. بدلًا من ذلك، تثبت أن الفينيقيين في الأصل نبعوا من التقاليد الإثنوغرافية اليونانية القديمة، وتوضح كيف أصبحت المفاهيم الشرقية والغربية للعرق غير واضحة خلال الفترات الهلنستية والرومانية، ما جعل بعض المدن تعرّف عن نفسها على أنها "فينيقية".
كذلك، تُظهر كوين أن تلك المدن التي روّجت لتراثها الفينيقي المفترض قد فعلت ذلك لأنها كانت ترغب في نقل رسالة سياسية أو ثقافية، وليس لأنها تؤيد مفهوم العرق الفينيقي بالتحديد.
احتضنت قرطاج مثلًا تراثها "الفينيقي" بصفته وسيلة لتعزيز مكانتها وسلطتها في شمال أفريقيا، وتشجيع المدن "الفينيقية" الأخرى على الانضمام إليها في مقاومة الإمبريالية الرومانية.
ناطقة بالفينيقية
يتألّف الكتاب من ثلاثة أجزاء. الأول يقارن الصورة الحديثة للفينيقيين كشعب أو ثقافة متماسكة مع القصة المختلفة جدًا المعروضة في المصادر القديمة. وبعد أن يبيّن الجزء الأول عدم توافر أي دليل مباشر على وجود أيّ شخص عرّف عن نفسه على أنه فينيقي قبل أواخر العصور القديمة، أو أن الفينيقيين في أي وقت مضى امتلكوا إحساسًا بالهوية المشتركة، أو النسب، أو الأرض الأم، فهو ينتهي باستكشاف وجهات النظر الخارجية عن الفينيقيين، كما وردت في الأدب الكلاسيكي.
يفحص الجزء الثاني كيفية تفاعل الشعوب الناطقة بالفينيقية بعضها مع بعض في مدنها وفي مستوطناتها ما وراء البحار.
توضح كوين أنه على الرغم من غياب الهوية العرقية المشتركة، استخدم الفينيقيون الجمعيات الاقتصادية والدينية لتعزيز الروابط السياسية والثقافية.
مقدمة حيوية واستفزازية
أما الجزء الأخير فيعترض على الرأي الشائع بأن التاريخ الفينيقي انتهى مع غزوات الإسكندر الأكبر في الشرق وتدمير قرطاج في الغرب. بدلًا من ذلك، يظهر مدى ازدياد الاهتمام بالفينيقيين خلال الفترتين الهلنستية والرومانية.
يتناول الفصل الختامي كيف أن ادّعاء الدول الحديثة، مثل لبنان وتونس، بأنّها من أصل فينيقي، أثّر في النظرة العامة إلى الفينيقيين.
الهدف من الكتاب إعطاء مقدمة حيوية واستفزازية عن القضايا المعقدة المحيطة بإعادة بناء الهويات القديمة واستعادتها، وهو ليس كتابًا للمتخصصين أو للطلاب. إذًا، الكتاب لا يجذب القارئ من خلال تحدي افتراضاته وأفكاره المسبقة فحسب، بل يشجّعه أيضًا على إعادة تقييم الدور الصغير الذي تم إسناده للانتماء الاجتماعي والاقتصادي والديني والسياسي في تطوير الهويات في الشرق الأدنى القديم.
هذا التقرير نقلًا عن "history today".