Skip to main content
هشاشة الذات وقسوة العالم في «موجات من الفوبيا»

ينقسم ديوان «موجات من الفوبيا» (الهيئة المصرية العامة للكتاب) للمصري كمال أبو النور إلى محورين متداخلين ومتصارعين، يشيران منذ البداية إلى وجود بنية درامية لافتة تنظم الديوان كله. يدور المحور الأول حول تصوير العالم في صورة «غابة» بكل ما يحمله هذا الدال اللغوي في المخيلة العربية من دلالات الافتراس والصراع الدموي واعتماد القوة مبدأً عاماً يحكم العلاقة بين كائناته. بينما يدور المحور الثاني حول القيم المغايرة لكل هذا، القيم التي يبشر بها الشعر، والتي قد لا تكون فاعلة في المدى المنظور، أو مقهورة ومغيبة إزاء سطوة الواقع ووحشيته. من هنا، يأتي الشعور بالضعف والهشاشة والإحباط والاغتراب.


وفي القصيدة الأولى من الديوان وعنوانها «أرواحٌ هشة»، نعاين هذه الدلالات كلها. تلفتنا – هنا - تلك الأنسنة التي يخلعها الشاعر على ما حوله وذلك التداخل الذى يصل إلى درجة التزاوج والتوحد بين الإنساني والطبيعي. لكننا، في الحقيقة، نبقى أمام مشهدٍ حُلمي غير قادر على إحداث تغيير جوهري في الواقع. فلنتأمل هذه السطور: «أن تسقط أسنانُك/ من أول لطمة للظلام/ يعني أنك هشٌ/ ولا تستحق أن تنتمي إلى هذه الغابة». نحن إذاً أمام «أزمة» تزداد إحكاماً، فما كان عجزاً عن «مولد نبي»، أصبح «لطمة» للظلام ستصبح بدورها «طلقة» في «قلب القصيدة»، في هذا السطور اللاحقة: «أن تتواطأ مع طلقة/ استقرّت في قلب قصيدة/ فأنت جاسوسٌ على زنازين الملائكة». ويبدو أن هذه السطور كلها تقوم على ما يسمى الأسلوب البرهاني المعتمد على المقدمات والنتائج المنطقية، فهي تخاطب العقل بقدر ما تخاطب الوجدان.

الشاعر إذاً يرى العالم في صراعاته وهو جزء منه، ولا شك في أن هذا ينعكس أسلوبياً على تردد صيغ المقابلات: الملائكة والشياطين، القيد والحرية، الشاعر ولاعب السيرك، الإنسان والآلة. واللافت أن الشاعر يوحد بين فاعلية طرفي بعض هذه الثنائيات، حيث يشعر بسطوة المتناقضين معاً: «وأنت تمرين أمام سطوة الملائكة والشياطين/ لا تنزعجي من وجهي الميت/ وأطرافي المرتعشة/ ارجعي مرة أخرى/ ستجدين وجهي كزهرةٍ ندية/ وأطرافي مستلقية كأنها في قيلولة». هنا حركة تبدأ بهزيمة الشاعر، وتنتهي بانتصاره. وتتخذ تيمة الحرية صيغاً عدة؛ منها الحلم بالتحليق والانطلاق كما يبدو في قوله: «هل أنتِ متأكدةٌ أنك تنامين بجواري/ أنتِ تكذبين/ فأنا لا أستيقظ/ إلا وحولي أجنحة/ عائدةٌ للتو مِن السفر» (ص 12). من هنا، تكثر دوال: العصافير، الأجنحة، الطيران، التجول في حدائق العالم؛ حين يقول: «اتركينى أتجول في حدائق العالم/ أمتص رحيقَها وأتخلص من العدم/ سأترك لك صنبوراً مِن العسل/ تدهنين به جسدَكِ/ كلما تشعرين برغبة في التحول إلى فراشة».

في المقابل، يبدو العالم كله ضد هذه الحرية، العالم الذي يشبه قاطعَ طريقٍ سرقَ مِن الشاعر أجنحته ومنعه مِن الطيران المرادف للخيال. وهنا تأتي صورة الأب الذي يجسد الطاعة: «سأقود تظاهرة ضد أبي/ لأنه لم يدربني على الخروج/ مِن طوابير الخُرس/ لم يعلمني/ كيف أصنع بركاناً/ لأجعلَ هذا العالمَ كلباً مطيعاً». وتأخذ صفةُ الوداعة بُعداً سلبياً حين يقول: «رحلَ أبي/ بكل وداعته/ وترك بجواري/ حيوانات تستعذب سلخَ جسدها».

ويشكل «التمرد» تيمة أساسية في هذا الديوان، فالشاعر ليس لاعب سيرك يسلي الآخرين، بل إنه – كما قيل له – سيقشر وجه التاريخ، مزيلاً مكياجه المزيف بقصائده الكاشفة، رافضاً أن يتحول إلى آلة خرساء «لا تفرز إلا فئراناً مرتعدة». وإذا كان تشبيه الإنسان بالآلة موحياً بالتشيؤ، فإن وقوعه بين ثقافة الصحراء والحضارة الحديثة يظل موحياً بالاستلاب: «أنا مِن العالم الثالث/ سئمتُ رائحةَ البِرك/ التي تنفجر كنافورة من أجساد الخراتيت/ سئمتُ الغربانَ/ التي تنعقُ/ داخلَ صحراء رؤوسنا العفنة».

فما بين وعي الصحراء الذى يسكن الرؤوس، والانتفاخ باستهلاك الحضارة، يقع إنسان العالم الثالث مرتدياً – فحسب – قشرة الحضارة كما كان يقول نزار قباني. ولا شك في أن هذه الروح الجاهلية وراء ما يصوره الديوان من ظواهر الاقتتال، حيث نرى: «قابيل يقتل أخاه/ في اليوم الواحد آلاف المرات/ بلا ألم ولا ندم/ ولا دمعة خادعة».

وتتوازى مع تيمة القتل تيمة أخرى لا تقل فداحة هي تيمة العوز القادر على تحويل العصافير إلى «هياكل لا تقوى على التحليق»... والحقيقة أن هذا الإحباط مجرد مشاعر وقتية، حيث يظل اليقين راسخاً في دور الشعر وقدرته على تعرية السلطة في شكل صريح، وفي إطار التحفيز على الرفض والتمرد يوظف الشاعر مجموعة من المفارقات حين يقول: «ما جدوى أن تربي الخراف/ وأنت عاجزٌ عن وضع إصبعك على الزناد/ تتركها للذئاب/ من دون طلقة ولا صرخة/ ما جدوى أن ترعى ثمار البرتقال/ وحين تتأهبُ لجنيها/ لا تجد ثمرة واحدة».

وأخيراً، إذا كان لي أن أدعو الشاعر إلى شيء، فإنني أدعوه إلى التخفف من المجازات البعيدة التي تثير الغرابة أكثر مما تثير الخيال. ففي قصيدة «رئات التعاسة»، نجد مثل هذه التعبيرات: خياشيم الشجر، صنابير السماء، أمعاء الشوارع. لكن هذا لا يمنع أننا أمام شاعر متميز له خصوصيته الواضحة بين شعراء جيله.

06 Oct, 2018 08:45:09 AM
0

لمشاركة الخبر