الجوائز العربية تلتقي في «منتدى جائزة الملك فيصل»
منذ أن تولى الدكتور عبد العزيز السبيل منصب الأمانة العامة لجائزة الملك فيصل العربية والعالمية العام 2015 سعى إلى تطوير هذه الجائزة انطلاقاً من رؤية رئيس هيئة الجائزة الأمير خالد الفيصل، وإلى جعلها مؤسسة قائمة على مبدأ التفعيل الثقافي والتخطيط المستقبلي والحوار، وتحريرها من العبء البيروقراطي والإداري الذي يثقل العمل الثقافي. فالجائزة يجب أن تتخطى الحدود المرسومة لها بوصفها فعلاً تكريمياً ومكافأة وتتويجاً للأسماء والتجارب الرائدة، لتصبح مؤسسة فاعلة ومبدعة تساهم في بلورة الواقع الثقافي الشامل وترسيخ الهوية الثقافية وتمكين مفهوم الحوار مع الآخر ومواكبة معطيات العالم الجديد. وهذا ما يسميه السبيل «القدرة» على الحوار مع الآخر ومواجهته. وأصلاً حققت الجائزة هدفها في مخاطبة حضارة العلم الحديث وكانت سباقة في منحها جوائز في الطب والفيزياء والكيمياء والعلوم الأخرى حتى إن بعض الذين فازوا بها ما لبثوا أن فازوا لاحقاً بجائزة نوبل وآخرهم البروفسور الألماني بول ونتر الذي فاز بجائزة نوبل الكيمياء. ولعل منتدى الجوائز العربية الذي أقامته جائزة الملك فيصل وشاركت فيه أبرز الجوائز العربية التي تُمنح عربياً وعالمياً هو خير دليل على السياسة الثقافية الشاملة التي بدأت الجائزة تنتهجها، متحولة إلى مؤسسة ذات بعد «مؤسساتي» صرف. وقد أفاد السبيل من مساره الطويل في حقل الشأن الثقافي الخاص والعام ولا سيما عندما شغل منصب الوكيل العام لوزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية ليؤكد، كما يقول في كتابه «عروبة اليوم: رؤى ثقافية» إن «المؤسسة ليست جهازاً تنظيمياً يكثر موظفوه، بقدر ما هي سلوك يتم تطبيقه في شأن اتخاذ القرار ووضع خطط مستقبلية ثقافية بعيدة المدى وضمان تنفيذها». ويرى السبيل أن مثل هذه الخطط يجب ألا تتوقف عند الأفراد وانتقالهم من موقع إلى آخر بل يجب أن تكون منطلقاً راسخاً لمهمات متميزة ينجزها الآخرون. وفي رأيه أن الشأن الثقافي «شأن متغير متجدد متحول في نوعيته، ولذلك حين يتم ربطه بالجانب الإداري فإن المسألة تتسم الجمود».
خلال المنتدى الذي توزع بين الندوات المفتوحة أمام جلسات النقاش المغلقة كان الدكتور السبيل هو المحور أو «الدينامو» كما يقال، لم يكل ولم يهدأ، يستقبل ويرحب ويناقش ويطرح الأفكار. ومن يعرف الدكتور السبيل أو قرأ له هو الناقد الأكاديمي الحصيف وصاحب الأبحاث والدراسات في حقل الأدب والتراث والفكر والمترجم الرصين، يدرك سر نشاطه الثقافي الدؤوب وإصراره على الانفتاح على الثقافة العربية والعالمية. ولا غرابة أن يبدو مشروع جائزة الملك فيصل المدعوم من الأمير خالد، مشروعه لا سيما أن غايته جمع شتات الجوائز العربية في لقاء موسع تجري خلاله مناقشة ثقافية هادئة وعميقة للقضايا المطروحة وبعضها لا يخلو من الطابع الإشكالي، فتُفتح الملفات وتطرح الأسئلة وتتم محاولة الإجابة عنها. ولعل المنتدى هذا حل في وقته وجاء يرسخ حواراً تبدو الجوائز في أمسّ الحاجة إليه.
فالجوائز شهدت في السنوات الأخيرة تزايداً كبيراً في حقول أدبية شتى ولو أن الرواية تظل هي نقطة الجذب الأولى. بعض هذه الجوائز محلية، رسمية تشرف عليها الدولة أو خاصة تمنحها مؤسسات أو نواد تبغي تشجيع الإبداع الأدبي وبعضها عربية مفتوحة أمام كل المبدعين العرب وتخترق حدود البلد الواحد. هذه الجوائز في الآونة الأخيرة تجذب الكتّاب العرب كما لم تجذبهم سابقاً، وأقصد هنا الجوائز «المثقلة» مالياً وهي لم تبق قليلة. وسنة تلو سنة تنضم دولة عقب دولة إلى لائحة هذه الجوائز، وكأنّ في الأمر مأثرة تشبه المآثر التي كثيراً ما عرفها العرب قديماً. وبات واضحاً أن هذه الدول «المانحة» تتسابق على جذب الكتّاب إليها من دون أن تمارس عليهم وصاية أو تطالبهم بما يقابل الجوائز. وأياً يكن الهدف وراء هذا السخاء اللافت، فالجوائز التي تُمنح تمثل مناسبة ملائمة يفيد منها الكتّاب مادياً، هم الذين يعاني معظمهم أحوالاً غير يسيرة ويعيش بعضهم في محاذاة خط الفقر. وكم ساعدت هذه الجوائز روائيين وشعراء ومفكرين على تخطي الظروف المادية الصعبة التي يعانون منها. هذه حقيقة يجب الاعتراف بها. ولعل نظرة سريعة على أسماء الفائزين حتى الآن بالجوائز هذه، تؤكد مدى ديموقراطيتها ومدى انفتاحها على الأدب الطليعي والفكر التقدمي، علاوة على اهتمامها بالثقافة المحافظة والأصيلة أو التراثية. كتّاب يساريون كثر باتت أسماؤهم مدرجة في لوائح الجوائز من دون حرج ولبس.
أما الأسئلة التي لا بد من طرحها، فهي: هل تؤثّر هذه الجوائز، الرسمية وشبه الرسمية والخاضعة شئنا أم أبينا لمعايير أخلاقية عامة، في طبيعة الكتابة نفسها؟ هل تحدّ هذه الجوائز من حرية الكاتب وجرأته؟ هل تخفف من حماسته في كسر الممنوعات وتخطي «التابوات»؟ معظم الكتّاب العرب يجيبون لا، ومن غير تردد، ولو أنهم على قناعة بأنّ المال لا بد أن يترك أثراً غير حميد في الأدب، لاسيما إذا غدت الجوائز هماً أو هاجساً ملحاحاً لدى الكتّاب. لكنّ جوائز بلا مال هي جوائز ناقصة وإن كانت كبيرة وذات بُعد «معنوي»، كما يُقال. إنها جوائز للتاريخ، تُعلّق شهاداتها على الجدار لفترة ثم ينساها حتى صاحبها، لكنها تُضم إلى سيرة الفائز بها. المال يمنح الجائزة سحراً ورونقاً، يجعلها غاية بذاتها، طريقة للكسب المشروع، بخاصة إذا كانت قيمتها كبيرة أو «معقولة». الأدباء العرب بمعظمهم يشعرون أنهم بحاجة إلى مكافأة على جهدهم الذي يصرفون له نصف حياة وأكثر. ما يجنونه من مبيع كتبهم لا يكاد يذكر، ما عدا الكتاب «الشعبيين» الذين تروج كتبهم لأسباب غير إبداعية في أحيان. قلّة هم الكتاب العرب الذين تمكنوا من أن يعيشوا من كتبهم وما يعود إليهم منها، على خلاف الكتّاب في الغرب، بعضهم وليس جميعهم بالطبع. وفي الغرب لا قيمة مادية كبيرة للجوائز الأدبية، ماخلا القليل منها، لكنّ الفوز بجائزة مثل «غونكور» الفرنسية أو «بوكر» البريطانية أو «بوليتزر» الأميركية أو «ثيرفانتيس» الإسبانية وسواها، يتيح للكاتب أن ينعم بأرقام عالية مبيعاً، ما يوفر له وللناشر دخلاً مهماً. وقد يكون محقّاً النقد الغربي الذي يتناول هذه الجوائز بوصفها صراعاً بين الناشرين ولجان التحكيم لا يخلو من «التآمر» الخفي. أما الجوائز العربية في هذا القبيل، فهي نادراً ما تساهم في ترويج الأدب الفائز، ويمكن استثناء جائزة «بوكر» العربية التي لها أثر سحري في القراء.
إن ظاهرة ازدياد الجوائز تدعو إلى التفاؤل. واللافت أن الجوائز تأتي في معظمها من دول الخليج وغالباً ما يفوز بها كتّاب غير خليجيين. وهذا ما يضفي عليها المزيد من الصدقية. جائزة الملك فيصل فاز بها نقاد عرب وعالميون وبينهم سعوديون، وعندما جال بنا الدكتور السبيل نحن المدعويين، على مركز الجائزة وقاعاته الجميلة راح يتباهى بصور النقاد العرب الذين ارتفعت صورهم على جدران إحدى القاعات. أما جائزة سلطان العويس ففاز بها حتى الآن كتاب عرب كبار ينتمي معظمهم إلى الطليعة التقدمية. وكذلك جائزة الشيخ زايد الفريدة وجائزة البوكر العربية التي كرست أسماء مهمة جداً في عالم الرواية. وقد تغيبت الجائزة العالمية للرواية العربية التي تسمى البوكر العربية عن المنتدى لأسباب تقنية، على رغم أن السبيل حاول مراراً الاتصال بإدارتها ولم يلق جواباً.
إذاً في الذكرى الأربعين لإنشائها شاءت جائزة الملك فيصل أن تجمع شمل الجوائز العربية، ولكن ليس في احتفال شكلي أو مهرجان عابر، بل عبر ندوات ولقاءات انتهت إلى توصيات مهمة جداً. وقد فتحت الندوة الأولى وعنوانها «الجوائز العربية الواقع والرؤى المستقبلية» السجال حول مفهوم الجوائز وإشكالياتها وطُرحت خلالها آراء جريئة وقد أدارها الأمين العام لجائزة الشيخ زايد للكتاب الدكتور علي بن تميم الذي قدم في كلمته مسار جائزة الشيخ زايد، وشارك فيها الأمين العام لجوائز فلسطين الثقافية الدكتور أسعد عبد الرحمن، والرئيسة التنفيذية لمؤسسة عبد الحميد شومان فالنتينا قسيسية، والمدير العام لمؤسسة الفكر العربي الدكتور هنري العويط. أما الندوة الثانية التي كانت بعنوان «الجوائز العربية الفائزون والأثر» فكانت فريدة بقضيتها فهي أفسحت المجال أمام بعض الفائزين ليعبروا عن آرائهم بالفوز وخوضهم هذه التجربة. شارك في الندوة الأمين العام لجائزة الأركانة العالمية للشعر الشاعر مراد القادري مديراً للجلسة بالإضافة إلى أربعة من الباحثين والمبدعين الذين حصلوا على جوائز مميزة في مسيرتهم الحياتية وهم الدكتورة جوخة الحارثية من سلطنة عمان والدكتور سعيد المصري من مصر والشاعر شوقي بزيع من لبنان والروائي يوسف المحيميد من السعودية. وقد تحدث المشاركون عن تأثير الجوائز في حياتهم العملية والإبداعية. وعقد اجتماع مغلق لمسؤولي الجوائز، لمناقشة المعايير وآليات عمل الجوائز العربية والقواسم المشتركة بينها وأوجه الاختلاف، بهدف تبادل الخبرات والتجارب وإيجاد سبل لمواجهة التحديات. وقد صرح الدكتور عبد العزيز السبيل بأن الاجتماع، بعد مناقشات مستفيضة، خرج بعدد من التوصيات أبرزها الموافقة على تأسيس منتدى الجوائز العربية ويكون مقره في جائزة الملك فيصل، وأن تكون الجوائز الحاضرة للاجتماع هي الأعضاء المؤسسة للمنتدى وأن يكون الاجتماع دورياً. وأوصى المنتدى بتكوين مجلس تنفيذي، وتأسيس بوابة إلكترونية للجوائز العربية، والعمل على تبادل المعلومات بين الجوائز التي تعزز العمل الثقافي العربي المشترك وتحفيز المبدعين والمفكرين العرب.
كان لا بد من عقد هذا المنتدى الذي نظمته جائزة الملك فيصل، فالجوائز العربية هي في أمس الحاجة إليه، كي تخلق فسحة للنقاش والتحاور من أجل المزيد من التعاون والتنسيق، فهذه الجوائز بات لها حضور واضح في المعترك الأدبي والفكري العربي والعالمي، وباتت تجذب أهل الأدب والفكر على اختلاف مشاربهم.