Skip to main content
تناغم الحكاية مع شعرية السرد

يفتح الروائي وارد بدر السالم في روايته الجديدة «امرأة بنقطة واحدة» الصادرة عن دار «نينوى - دمشق» 2018، أفقاً لما يمكن تسميته بـ«السرد الشخصي»، حيث يضع قارئه أمام لعبة سردية بسيطة، تنخرط في حكايتها شخصية واحدة، متخيلة وهامشية، لكنها عميقة في استغواراتها، وفي كشوفاتها للحظات حبه الغائبة، إذ تتحول سردية الكشف إلى وظيفة للحفر في الزمن، وللتعرّف على ما تعرّض له المكان من محوٍ، وكأنه يقترح لنا تورية للأثر الفاجع الذي يتركه الغياب والحرب على التفاصيل؛ حيث الخراب، وحيث الزمن الذي يتحول إلى فانتازيا سردية.
تنطوي هذه اللعبة على فعل سردي تتحايث فيه شخصية الراوي - الأستاذ مع صورة حبيبته الغائبة، لتنسج لنا تمثيلاً يتحول فيه الغياب إلى حضور، وليكشف لنا الروائي عن المدى الفضائي للحكاية، وعبر ما تستدعيه من تحولات تقوم على فكرة «الاستعادة» كجوهر لبؤرة هذه الحكاية، ولفعل الوصف فيها، عبر الافتتان بالمكان، وعبر ما تنسجه من حدث يقوم على سيكولوجيا التعويض، الذي يستأنف من خلاله الراوي تماهيه مع نسق الغائب، والإيهام بالاسترجاع، واستحضار الحبيبة في إشارة سيميائية لتحويل المكان إلى دالة للحياة، وإلى بؤرة سردية فاعلة.


رواية الحب كما يسميها المؤلف تتحول إلى رواية فزع، حين يدرك الأستاذ وهو يرحل مع شبح حبيبته باحثاً عن «نقطة حبه القديمة» أن العالم من حوله قد تغيّر، وليجد أن الزمن العابر قد محى الأثر، وأنّ بحثه عن حرف «ز» يتنامى عبر اصطناعه مونولوجاً داخلياً تخيّلياً مع شبحها، توهماً باستعادتها عبر حضورها في التفاصيل، وعبر قناع منحوتته القديمة، وعبر لعبة انغماره في السرد الشخصي، لاستدعاء وجودها عبر المعنى الغائب، المعنى التعويضي الذي يستدعي شفراته (أستاذ الجماليات) للحضور في اللغة - السرد، لمواجهة فكرة الموت، والتغيّر (في تاريخ الأشجار، حيث تراكمت النقاط المحفورة والخطوط المائلة ومدونات الحب المتواصلة).
- الإحالة إلى عين الكاميرا


الاستهلال الوصفي للرواية يرسم لنا لوحة تنبئ عن الفقد، إذ يتحول مشهد سقوط «الأستاذ» في الطين إلى لعبة سردية تتقابل فيها اللغة - المونولوج مع ثنائية الحديقة واللوحة، وأن غيابه، أو سقوطه في المكان، هو ذاته الغياب في اللوحة، وكأن هذا الحدث هو تمهيد سيميائي لترسيم حدود الحدث التخيّلي للرواية، وللإيهام بأنّ غياب الحرف بدلالته الزمنية هو ذاته الغياب بدلالته الأنطولوجية.


توظيف الروائي لحركة عين الكاميرا، يقوم على تقانة «الفلاش باك»؛ حيث تتبدى وكأنها ترصد حركات الأستاذ في رحلته العاشقة بحثاً عن ذكرياته (بحديقة عامة تتوسط العاصمة بغداد)، أو عن تخيلاته في المكان، إذ يجد في تحوّله المكثف والغرائبي نظيراً لتحوّل جسده السبعيني، وأنّ طاقته الوصفية والشعرية لا تعدو أنْ تكون سوى استعادة لهذا الجسد الذي عاش شغفه في ذلك المكان، ودوّن على أشجاره حرف حبيبته المفقود، وأحسب أن شفرة الفقد هنا، هي تورية لتاريخ من الفقدانات التي عاشها عاشقون أو جنود أو حالمون عبروا، أو أخذتهم الحروب إلى الغياب.
عين الكاميرا هنا ليست حيادية، فهي عين الروائي الذي يؤطّر حركة البحث عن شبح المرأة، عبر تشغيل الإطار السردي، وبما يُتيح للشخصية أن تفيد من معطيات بؤرة التمركز السردي في المكان، ولتكون لعبة السرد كاميراتية - هنا - تمثيلاً لحركات - تنقلات يضبط إيقاعها إمعاناً في لعبة الكشف، وفي التعبير عن الاندحار الروحي، وعن خوفه وهو يتخيّل أنّ العالم لم يعرفه، وأنه يتحرك بعنف من حوله (يبدو أنهم يقصون أشجار الغابة).


الطاقة الوصفية في الرواية ليست بعيدة عن لعبة الروائي - أيضاً - في صناعة المشهد السينمائي، الذي يُتيح لعين الكاميرا الساردة أن تتحرك، لتتبع المفارقات الحادثة في المكان، وفي اللغة؛ حيث يتحول فقدُ إحساسه القديم بـ«قبلة الماضي السعيد» ونظرته البريئة والمسالمة للأشجار والأصوات إلى شعور غائر بالاغتراب والألم (العواطف الآن أصبحت إلكترونية، والرومانسيات عبارة عن أزرار صغيرة، والعلاقات ليست كما كانت بريئة ورائعة وحقيقية) مثلما تكتسب اللغة الساردة دينامية تعبيرية، تتوارى فيها المباشرة، لتحضر الاستعارية بوصفها الإحالي، وبما يُضفي عليها إحساساً بحضور الآخر الحبيب - الغائب، في إشارة نفسية لقوة الانزياح، وحميمية الدلالة.
- شعرية السرد


شعرية الرواية تتبدى من خلال شعرية المفارقة، وشعرية الاستعارة، وهذا ما يجعل التقصّي السيمي للحدث السردي لا يتقاطع مع شعرية الوصف، إذ تتبدى تلك الشعرية من خلال الدال الإيحائي، ومن خلال التمثيل التصويري، حيث يتحول السرد إلى وصفٍ يكتسب طابعاً شعرياً، بدءاً من التوظيف الحروفي بسياقه الإشاري، وليس انتهاء بتوسيع لعبة الاستعارة والمفارقة، وإيحائية التخيّل التعويضي للمرأة الغائبة، وهي تقانة تسير بموازاة تنامي فعل السرد.


يقترح وارد بدر السالم في هذه الرواية إنموذجاً خلافياً لتسويغ لعبته السردية، حيث ينسحب من تاريخ سردياته المحتشدة بسرديات الوثيقة والتاريخ، وبالشخصيات الصراعية إلى مقاربة ينزاح فيها إلى لغة الاستعارة، وإلى حميمية التمثيل السردي على مستوى المضمون، أو على مستوى الشكل؛ حيث يتعالى فعل التخيّل بوصفه استعارة للتعويض عبر شفرات «الوردة، المنحوتة، الشجرة» مقابل ما تتعالى به اللغة عبر تمثيلها الاستعاري؛ حيث تنسج عوالم، وحركات - انتقالات متخيلة، لها إحالاتها ألغامرة بالشغف والحب، ولتجعل من صورة المرأة الغائبة بؤرة سردية تنجذب إليها حركات السرد في سياقها الوصفي، حدّ أن ظلالها بدت أكثر تعبيراً في مواجهة الزمن، وفي التماهي مع فاعلية اللغة الواصفة، في إشراقاتها، وفي توهجاتها الشعرية (نصف قرنٍ من الحب تختصرها هذه الوردة لأنها أنتِ، وهي الغابات الصغيرة التي تجولنا وحكينا فيها وزرعنا الحب والأمل فيها).


المزج بين الشعري والسردي في الرواية بدا واضحاً وفاعلاً، وهو ما يؤكد انزياح الروائي السالم لتقانة السرد الشخصي، حيث يجد فيها مغامرة في التجريب، وفي مقاربة إنسانية وحسية لثيمة الفقد التي يعيشها الإنسان العراقي، الباحث عن إثره، ووجوده، وسط الأمكنة التي عبرتها الحرب.
كما أنّ تقانة السرد في هذه الرواية انحازت إلى ما يمكن تسميته بـ«الصناعة المشهدية» فالروائي قدّم لنا عبر 18 وحدة تصويرية، وصفا تتناغم فيه اللغة الشعرية مع الحكاية، تتحول فيها بنية الغياب إلى قوة تستدعي الحياة والحضور، ولتبدو الحبيبة الغائبة في سياقها هي الحافز السيميائي الذي يقود لعبة الحكي والبوح، ولتبرير رحلة الأستاذ إلى الحديقة ليستعيد شبح حبيبته، وليجد في الطين لذته الإيهامية في استعادة إيهامية للعبة الخلق الأيقوني لوجهها في المنحوتة الغائبة.

23 Dec, 2018 09:17:55 AM
0

لمشاركة الخبر