ماذا قرأ المثقفون العرب عام 2018؟: المثقفون السعوديون... الرواية سيدة القراءة
- إبراهيم الحسين: «موت في العائلة»
«موت في العائلة»، لكارل أوفه، ترجمة الحارث النبهان، هي الرواية الأبرز، فمنذ زمن لم أقرأ رواية بهذا الحجم وهذا الجمال! مررت هذا العام بروايات أخذتني وانغمست فيها، لكن أن تقرأ عملاً يخطفك بحكايته، أن يرتفع بك بتفاصيله، أن تجد تفاصيل الأشياء، بما يجعلك قريباً منها؛ كان بإمكان المؤلف أن يقول أحداثه، وأن ينقل مجرياتها، وأن يوصلها، بطرق أخرى كثيرة، لكنه اختار قاصداً أن يحفر، أن يشعل كل الأضواء، حتى يصبح كل شيء مرئياً، الصغيرة والكبيرة، والجميل أنه لم يكن يفعل ذلك بهدف الإطالة، لكنه كان منتبهاً، ولا يريد أن يغيب أي شيء عنه، كان يتحدث عن أبيه، كان يذهب في موته، كان يراوح بين طفولته وذكرياته التي كان محورها ذاك الأب، ذكرياته معه، ينتقل إلى شبابه، يفعل ذلك ليعيد اكتشاف تلك المراحل، يتنقل بينها دون أن تشعر بأي اختلال، دون أن ينفّرك، كان يريد أن يعرف، كان يقرأ مشاعر الشخصيات، أخوه وجده وأمه وجدته، التي وضعها في مواجهة لغته الشعرية التي لا يمكن إغفال دورها في رفع قيمة هذه الرواية، وجعلها مغوية إلى هذا الحد، نعم هي مغوية، وهذا ما حدث لي معها، أنا لا أبالغ، لكني حقيقة أحببت هذي الرواية حدّ أني ترددت في إعادتها إلى الذي أعارني إياها، أ. عبد الله السفر. رواية أعلم أن لها أثراً كبيراً علي، وأنه سيبقى معي، وأنها دخلت في بنائي، أغنيت منها، هذا العمل مشبع، ويلبي حاجتك لعمل فني على هذا القدر من الجمال بين حين وآخر، حتى لو مرة واحدة كل عام. وختاماً، لا بد من ذكر أني لست ناقداً، لكن هذا هو انطباعي عن هذا العمل الذي فعلاً فتنت به، وأفدت منه.
- عبد العزيز الصقعبي: روايات... وروايات
من الأمور الصعبة أن يسأل شخص ما عن الوجبات التي أكلها خلال عام، فمن النادر أن يمر يوم على أي شخص دون أن يأكل ولو قطعة بسكويت أو حبة تمر، الأمر بالنسبة لي يشبه ذلك حين أتحدث عن القراءات. ولكن كما الوجبات، هنالك «أكلات تبقى بالذاكرة»، كذلك الكتب، فهنالك بعض الكتب تبقى مختلفة متميزة. وقد قرأت كثيراً في هذا العام، وكان النصيب الأكبر للأعمال الروائية، خصوصاً المترجمة، وبعد ذلك المجموعات القصصية والدواوين الشعرية التي أجعلها كمحطات استراحة، وبعض كتب الدراسات. وربما ما دفعني للتوجه لقراءة الرواية هو انتهائي من روايتي «غفوة ذات ظهيرة»، وصدورها، وكانت السنوات السابقة تلزمني بقراءات بحثية متعمقة لأجل كتابتها.
هذا العام، واصلت علاقتي بقراءة روايات بول أوستر: «رجل في الظلام»، و«حكاية الشتاء»، و«اختراع العزلة»، وروايات غيوم ميسو. واستمتعت بوجبة متميزة ستبقى في الذاكرة، وهي رواية «النباتية»، للكورية هان كانغ. وبالطبع، قرأت للروائي المذهل ستيفان زفايغ رواياته القصيرة، وشدتني روايات أفونسو كروش «دمية كوكوش» و«الكتب التي التهمت والدي». وبكل تأكيد، شأن عدد كبير من قراء الرواية، بدأت بقراءة رباعية كارلوس زافون، ضمن سلسلة «مقبرة الكتب المنسية»، بدءاً بـ«ظل الريح» ثم «لعبة الملك»، وفي المستقبل سأكمل هذه الرباعية.
وقرأت بعض الروايات العربية التي رشحت لجائزة «البوكر»، ضمن القائمتين الطويلة والقصيرة. وقد قرأت رواية «الحالة الحرجة للمدعو كاف» قبل ترشيحها، وأوصيت بعض الزملاء بقراءتها. وهنالك بعض الروايات، أغلبها من المملكة، بل حتى من الوطن العربي، قرأتها كمجاملة، وجزء كبير منها لم أستطع أن أكملها، حيث أفاجأ بكون بعضها مؤدلجة، كرواية «جمهورية كأن»، لعلاء الأسواني، التي تشبه إلى حد كبير مقالاته السياسية، رغم أنها تتناول زمن ثورة يناير (كانون الثاني)، لذا فقد خرجت من ذلك الصخب السياسي بقراءة بعض الروايات المتميزة، مثل ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور، وبعض روايات صنع الله إبراهيم، وعبد الحكيم قاسم. وبالطبع، لم تنحصر قراءاتي على الكتب، فبحكم عملي مديراً للتحرير للمجلة العربية، أجد نفسي ملزماً بقراءة أغلب ما يصل للمجلة من مقالات ودراسات وإبداع، لذا ولله الحمد وجباتي القرائية متنوعة.
- د. عبد الله الحيدري: في حضن السيرة الذاتية
اتجهت قراءاتي في عام 2018 نحو فضاء محبب لي، وهو كتب السيرة الذاتية، مع التركيز على ما صدر من سير ذاتية لكتاب سعوديين، وصلت إلى مكتبتي إهداء أو شراء.
ومن أبرز الكتب التي قرأتها هذا العام: سيرة الدكتور مسعد العطوي «التحوّل»، وصدرت عام 2013. ومع أهمية العمل، فإنه لم يخل من أخطاء كثيرة ليت المؤلف يتداركها في الطبعة المقبلة، وكتاب «التحدث بنعمة الله: سيرة علمية»، للراحل الدكتور حسين نصّار (مصري)، وصدر في عام 2017، وهو كتاب ليس بالكبير، ولكنه تميّز بالمكاشفة والجرأة في الحديث عن زملاء دربه.
وقرأت «فوق هامة التحدي»، للدكتور ساعد العرابي الحارثي، وصدر عام 2017، وهي سيرة متقنة في سرد أحداثها، وفِي لغتها، وفِي القالب الذي اتخذته. كما قرأت «سنوات الجوف»، للدكتور عبد الواحد الحميد، وهي سيرة ذاتية صدرت عام 2017، وتميزت بالرصد الدقيق لمحطات حياته المختلفة، فأرّخ لسنوات مضت في منطقة الجوف، تكاد تندثر ولا يعرفها جيل اليوم، مع لغة سلسة مشوقة في قَص الأحداث، وشخصية المؤلف متواضعة قريبة من النفس.
وهناك كتاب جمع بين السيرة الذاتية وأدب الرحلة، وهو كتاب «بكالوريوس تربية يمنية»، للزميل سعد الغريبي، وصدر عن نادي الأحساء الأدبي عام 2017، وهو من الكتب الممتعة جداً، ويسجل تجربة مبتعث للتعليم في اليمن قبل أكثر من أربعين عاماً.
ومن السير التي قرأت «مشيناها: حكايات ذات»، للدكتور عبد الرحمن الشبيلي، التي تميزت بالتماسك والشمولية في رصد الأحداث. ويعد الكتاب جزءاً من تاريخ الإعلام في المملكة، وهو من الكتب الجديدة، إذ صدر عام 2018.
وأستطيع القول إن جنس السيرة الذاتية لدينا في المملكة في نمو ملحوظ، وتحتاج الأعمال الصادرة حديثاً إلى قراءات معمّقة من الزملاء المتخصصين، تضعها في مكانها الصحيح بين جملة الأعمال التي صدرت في الماضي.
- رحاب أبو زيد: «لا نهائية...» إيكو و«رقصة القمر» مع آينشتاين
أميل مؤخراً لمخالفة قوانيني الشخصية في القراءة كافة، التي كان من بينها عدم قراءة كتابين في وقت واحد، واستبعاد مقاطعة الكتاب قبل إنهائه بالكامل، وعدم مشاهدة الفيلم (أو المسلسل) قبل التهام قراءة القصة أولاً. وهنا، سأعطي بعض الأمثلة التي ساهمت وبقوة على اتخاذ بعض الخطوات الجريئة لتعديل قوائم الكتب في حياتي، وأضفت الزخم اللطيف الماتع على الطقوس الملازمة لها.
من أجمل ما قد أجده في كتاب هو مصداقية الكاتب، وشفافيته في تناول الموضوع المراد. ومهما كانت الاهتمامات متشعبة، فإنها تثير الفضول المحمود والرغبة النهمة للإبحار بين أودية فكرية مختلفة، وهذا تماماً شعوري بقراءة «لا نهائية القوائم - من هوميروس حتى جويس»، للفيلسوف الناقد الأدبي الإيطالي أمبرتو إيكو، ترجمة ناصر أبو الهيجاء. وكي تتزن الكفتان، اخترت قراءة خفيفة متزامنة مع هذا الكتاب، بعنوان «رقصة القمر مع آينشتاين»، لـجوشوا فوير، ترجمة الشاب المبدع محمد الضبع، وهو يناقش واحدة من المناطق التي تثير اهتمامي، وهي النسيان، وعلاقة قوة الذاكرة بعلم الأعصاب والعلوم الإدراكية لدى الإنسان، وما إذا كان فقد الذاكرة كالكنز الضائع يمكن استعادته. ومن خلاله، تعرفت على إقامة مسابقات أميركية وعالمية بين أشخاص يظنون أنهم يملكون ذاكرة قوية؛ هل هم خارقون أم فقط يجيدون الحفاظ على قدراتهم الذهنية؟
أربعون عاماً قضتها البروفسورة الألمانية آنا ماري شيمل في التنقيب عن المتاح من الحقائق، والربط بين الممكن منها. أمضتها تلتقط الكلمات بملقاط الماس، وقد ساعد المترجم د. عيسى العاكوب كثيراً في نقل رهافتها وتعمدها لاستعمال لغة بهذه المباشرة في غير سطحية حيناً، والمحسنة بلاغياً في غير تكلّف حيناً آخر، وهنا يكمن ذكاء الباحث، عندما يختار من دولاب «النغمات» اللغوية ما يتلاءم والموضوع، وهذا ما تلمسه في كتاب «الشمس المنتصرة... دراسة في آثار الشاعر الإسلامي الكبير جلال الدين الرومي». تقول آنا ماري شيمل: «النقود الأولى التي حصلت عليها من العمل الإجباري في مصنع في عطل الفصل الدراسي حولت مباشرة إلى المجلدات الثمانية للمثنوي التي حققها نيكلسون»، وكانت تشير لديوان شمس الدين التبريزي الذي نسخ باليد بعناية فائقة. في الفضاء نفسه، أقرأ الآن الأعمال الصوفية لمحمد الحسن النفري. والآسر في هذا الجانب هو مدى التدقيق والتحقيق والتمحيص الذي يبذله الدارسون بصدد معلومة واحدة تمس تاريخ أصحاب هذه السير الذاتية أو الحقبة الزمنية المحيطة.
ومن أهم قراءات هذا العام بيان مفجر الجامعات والطائرات «المجتمع الصناعي ومستقبله»، لتيد كازينسكي، وهو البيان الذي بادله بحريته، وسجن مقابل طمعه في وصول كلمته لأنحاء العالم. والمثير هنا هو ليس فقط فكرة الكتاب القائمة على رفضه أسلوب الحياة المعاصرة، وتبرير ذلك، بل قصة القبض على الرجل، أستاذ الرياضيات الذي أثار جنون السلطات واستنفرهم إلى أن ارتكب سطراً بليغا قادهم إلى تحديد هويته، لعبة «البيان» والقدرة اللامتناهية التي تنطوي عليها اللغة والحروف والكلمات تسببت في كارثة، أو ربما أنقذت العالم من كارثة.
باللغة الإنجليزية استمتعت بقراءة كتاب راي ديفيد «المبادئ» (Principles)، حول منهجية تطوير الأفكار، وبالتالي القادة والمبدعين. ويفيد الكاتب بأن التعلم عملية مستمرة خالدة للأبد، ويمكن أن تكون منتجة في ذاتها.
وأحلّق أيضاً لختام هذا العام بين أروقة وذكريات د. غازي القصيبي، في كتابه «الوزير المرافق»، وهو صاحب هذا الكم من التجارب السياسية والإدارية والمهنية والدبلوماسية التي يصوغها جميعها بانسيابية وبساطة لا تصدق.
- جابر محمد مدخلي: رحلة في روايات «البوكر»
القراءة، هذا الكائن الذي يغذّيني دوماً، أشعر كما لو أنني أدّس بداخلي غذاءً لا يتعفن، ولا يتجفف أبداً. كلما قرأت، شعرت كما لو أنني أعود من جديد إلى صدري، وأفتش داخله عن أبطال كانوا خيالاً في رواياتهم، نائمين لا أحد يشغلهم، ولا أحد يفكر فيهم بالوقت ذاته. هكذا أتعايش مع الكتب وبينها؛ أخلق حولي كل عام كتباً جديدة أتعامل معها على أنهم ضيوفي: أرتب لهم الأسرة، وأجهز لهم ما يشاءون من سهرٍ يليق بهم، وأضع أمامهم فناجين قهوتي، وأبدأ في خلق المساء المناسب لكل ما سوف أقرأه، كما لو أنني ذاهب لرحلة تطول.
في عام 2018، أعتقد أنني تعلمتُ أشياء كثيرة من كتبٍ قرأتها، أشياء لم أتعلمها مما قرأته بالعام المنصرم. ففي كل مرة، أجد أن أسلوباً جديداً يدخل في دوائر السرد، ويطفو على مشهدنا العربي خاصة. وبالسرد الروائي مهتم أنا تحديداً، فأنا مدمن على قراءة السرد ونقده، وما يتعلق به؛ ليس محاباة لأصدقائي كتّاب الرواية، ولا انحيازاً لأنني روائي، ولكن لأنني أجد بالروايات ما لا أجد بغيرها، لذلك أسعى لقراءة إصدارات كل عام من هذا النوع من الكتب. كما أعكف كثيراً على قراءة القائمة الطويلة والقصيرة للبوكر. كل عام، أنتظر بلهفة تلك العناوين التي تهبط علي كحلوى تصالحني مع عوالم الذين كتبوها. وأسعد كثيراً حين أجد رواية لكاتب غير مغمور، ولا معروف، ولا شهير، أو أكون قد قرأت له سابقاً؛ هذا يشعرني أن مشهدنا العربي يتحسن تلقائياً، ووراثياً وجينياً. أطمئن كثيراً على أنّ هناك من سيرث هذا السرد، وسوف لن تبقى القائمة على كُتّاب احتكاريين أبداً.
(الخائفون، وحرب الكلب الثانية، والحالة الحرجة للمدعو «ك»، وساعة بغداد، وزهور تأكلها النار، وإرث الشواهد) ست روايات منذ دخولها القائمة الطويلة وأنا أتتبع خطواتها، وكيف يمكنها أن تدخلني إلى عوالم أوراقها. لا أنكر أنني تعلقت بكل بطلٍ على حدة، وكل أرواح ما في هذه النصوص على حدة؛ شكرتُ داخلي كل كاتبٍ على ما قدمه لي بهذا العام، وشكرتُ أدبنا العربي أنه لا يزال يعطينا مساحة لنشعر أننا نقرأ، ونقرأ لنشعر بطبيعة البقاء على قيد الكتاب.
- ناصر الجاسم: على إيقاع «الطقاقة بخيتة»
لقد قرأت في هذا العام رواية «الطقاقة بخيتة»، للروائي السعودي المتميز محمد المزيني، قرأتها في زمن متأخر عن زمن نشرها، ولو أتيح لي وقت لقراءتها مرة ثانية أو ثالثة لما تأخرت أو ترددت في ذلك، وحتى لو وجدت لي فرصة لجعلها من مقررات صف دراسي لتعليم الرواية أقوم بالتدريس فيه، لقررتها على تلاميذي كأنموذج للرواية الحديثة شبه المتكاملة في عناصرها الفنية والبنائية. ولقد شعرت وأنا أقرأها بمشاعر معينة لم أشعر بها منذ مدة بعيدة؛ شعرت بالحماس وبالترقب، واستعدت قدرتي على التنبؤ بالأحداث ومعرفة مصائر الشخصيات، وتلذذت بنكهة التشويق، وتذوقت مهارة الوصف الناجع عند الكاتب، وسررت كثيراً بالحس الفلسفي والرؤى الوجودية التي طرحها المؤلف في ثنايا سرده، وبسريان الحكاية في المتن الروائي بسلاسة عذبة، وبسرد العجائبي والغرائبي (عالم الجن)، وأكثر ما أدهشني وأذهلني هو براعة المؤلف المزيني الأكيدة والواضحة جداً في خلق الشخصية الروائية البطلة، كشخصيتي بداح العجوز و«الطقاقة بخيتة».