Skip to main content
أفول شمس الأدب والتحقيق.. القزويني الراحل

كان القزويني بموسوعيّته وخُلُقه الرفيع وأدبه الجليل بين الناس كـ"الطبيب الدوَّار بطبّه"، يتنقّل في مجالسه بتراثيّةٍ جذَّابةٍ وعفويةٍ وتلقائيةٍ قلّ نظيرها. برحيله، فقدت الساحة الأدبية والعربية والإسلامية في الأسابيع القريبة المُنصَرِمة، نجماً ثاقباً وعالِماً ألمعياً وبحَّاثةً مُحقّقاً كبيراً؛ هو المُحقِّق والمؤرِّخ والشاعر الأديب جودت كاظم القزويني (1953-2020). كان لهذا العَلَم النادِر في مجالات التحقيق في التراث والمخطوطات والأدب وسِيَر الرجال والأنساب، دور الريادة؛ وقد شارفت جُلّ هذه الفنون الأصيلة والقديمة الكلاسيكية على الإنقراض والإندثار (على الأقل) في منطقتنا العربية بعد أفول القزويني برحيله المُفاجئ والفاجِع. فقد ألَّف القزويني في رحلته العلمية الكثير، وامتازت نتاجاته بوثاقةٍ ورصانةٍ عاليةٍ، وجمالية التواصُل المباشر مع أعلام عصره بشخوصهم؛ من عُلماءَ وفُقهاءَ ومُفكّرينَ وأُدباءَ، ومن ذوي الإختصاص في شتَّى المجالات التي اتصلت بمشروع لَمْلَمة جوانب من التراث العربي شبه المُبَعْثَر والمُشْرف على الإندثار في القرن المُنصَرِم وحِقْبة ما سبقه. كانت غايته تذكير الأجيال الطالِعة بأصالتها وهويّتها المُشارِفة على الإنقراض بسبب الوضع الجيوسياسي الصعب الضاغِط في المنطقة وتعرُّض الشعوب فيها إلى أكثر من استهداف، للإستحواذ على الأرض والخيرات والموارد الطبيعية والبشرية. وقد أثقل ذلك الهمّ كاهِل القزويني– المؤرِّخ حيث وجد الفجوات تكبر والهوّات تتَّسع بين الأجيال المُتأخِّرة عن أسلافهم المُتَقَدّمين؛ فعَمَدَ بجهدٍ موسوعي كبيرٍ لتثوير قلق التواصُل بين المُتأخّر من الأخلاف والمُتقدّمين من الأسلاف، وبين القديم والجديد، وبين الحَداثة والأصالة. جمع القزويني في موسوعته "تأريخ القزويني – في تراجم المنسيّين والمعروفين من أعلام العراق وغيرهم (1900-2000م)" (طـ.2012م/1433هـ، ثلاثون مجلّداً)، باكورةً من تراجم الأعلام العربية والدينية ومُنجزاتهم ليثبّت للتأريخ حقيقة أن الأمَّة لم تخلُ من عطاءاتها ورموزها العلمية والأدبية والسياسية في فترةٍ من فترات التاريخ، لا سيما في القرن المُنصَرِم. وذلك رغم كل مشاريع الإضعاف والتهميش التي تعرَّضت لها وما زالت من طَمْسٍ للهوية وسرقة شتَّى خيراتها ومُنجزاتها، ومن ذلك التُراث الثقافي والأدبي. وكانت غاية القزويني بادىء الأمر أن يقتصر على ترجمة شعراء العراق وأدبائهم المغمورين المنسيّين؛ ولكن نظرته هذه لم تدم طويلا.ً فقد تقدَّمت وتطوَّرت تجاه التراجم والسيَر في بوتقةِ منظومةٍ عامةٍ تجاه قضايا الأمَّة وتداخُل عناصرها الفكرية والثقافية والسياسية والأدبية والتاريخية، بحيث أضحى أمر الأمَّة وهويّتها وتحديد مسيرها ومصيرها، عنده، منظومةً موحّدةً مُتكامِلةً، من الصعب أو المُتعذَّر التفكيك بين أجزائها؛ وحدة كالجسد الواحد والروح الحيويّة الواحدة في رابطةٍ وثيقةٍ مُحكمةٍ. لذلك عَمَدَ القزويني إلى دراسة حركة الأعلام عند ترجمة حياتهم والتركيز على مواطن فِعَالهم وتأثيرهم في صُنعِ تاريخِ المرحلة (القرن العشرون الميلادي)؛ وقد تجلَّى ذلك في ترجمة حياة كوكبةٍ من السياسيين ومؤسِّسي الأحزاب الدينية وغيرهم، علاوة على العُلماء والأدباء، ممَّن كان لهم الباع الطولى في تحديد معالِم المرحلة المذكورة. وللقزويني، علاوة على مؤلَّفاته الكثيرة، موسوعة تُراثية أخرى تُشابه موسوعته "تأريخ القزويني" من بعض الجهات؛ وقد وَسَمَها بعنوان "الرّوض الخميل – صفحات من سيرة أدبيّة مُطوَّلة" (طـ.2016م/1437هـ، عشرة مُجلَّدات). وقد تميَّزت هذه المُطوَّلة برياضها الخميلة، ضرباً من نوادر الشعر والنثر والأخبار والطرائف والمنقولات؛ نصوص مُبتَكرة في مُعاصرتها، ونابعة من صميم المرحلة.

11 Aug, 2020 10:41:37 AM
0

لمشاركة الخبر