Skip to main content
قراءة في ديوان «كأس من الفرح المخملي» لأشرف قاسم

أحمد اللاوندي/ مصر

  إن سر نجاح الشاعر أشرف قاسم يرجع إلى عدة أشياء، من بينها اعتماده على نفسه، وهذا هو سر تقدم الناجحين في شتى مجالات الحياة بأي زمان ومكان، ذلك ما يؤكده «صموئيل سمايلز» في كتابه الماتع (سر النجاح) حيث يقول: «اعتمادُ الإنسان على نفسه أصلٌ لكل نجاحٍ حقيقيٍّ، وإذا اتصف به كثيرون من أمة من الأمم ارتقت تلك الأمة وتقوَّت، وكان هو سرَّ ارتقائها وتقوِّيها، وما ذلك إلا لأن الإنسانَ يَقْوَى عزمُه باعتماده على نفسه، ويضعفُ باعتماده على غيره».

في ديوانه الجديد «كأس من الفرح المخملي» الصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يطل علينا أشرف قاسم بمجموعة من النصوص الشعرية التي صاغها بعناية ووعيٍ وإتقان، تحملُ تلك النصوصُ أفكارًا يرتبط جميعها بمخزون إنساني ضخمٍ منفتحٍ على كثير من الثقافات، ومتمردٍ على الواقع المرير الذي يعيشه هو ويعيشه مجتمعه، حيث يستحضر من خلال وعيه وذاكرته وذكرياته مشاهدَ وجراحًا متعددة نزفت في الماضي وما زالت تنزف، إذ يحاول من خلالها أن يخرجَ بالقارئ من الحيز الضيق ومن النفق المظلم ومن المنفى الكبير الذي يحاصره ومن غربته التي لا تزال تخنقه وتسيطر عليه.

صعب أساك

يا ضحكة الأطفال في وجه الملاكْ

عطشى صحارَى الحزن في السبع العجافِ

بقسوة شربت دماكْ

من مشربيات انفرادك ترقب الدنيا

وترسم وجهها

وأراك تحلم أنها يوما تراكْ

يصور لنا الشاعر حالة خاصة يجب الالتفات إليها، وأعتقد أن الذات الشاعرة هي التي تخاطبه هنا، ولم لا؟! وهي تفرح لفرحه، وتتألم إذا أصابه مكروه، ما أصعب الأسى حينما يتمكن من الروح، ويربك النفس، عندها، يهوى الشاعر العزلة، ويفضلها على كل شيء بعدما أهمله وطنه وتخلت عنه الدنيا بأسرها. إن الذات تود أن تنعزل، تنعزل في البعيد لكي تعي ولكي تدرك. من هذه النقطة تولد القصيدة العظيمة والقصة العظيمة والرواية العظيمة والمسرحية العظيمة واللوحة العظيمة والفن العظيم.

ذهب الرفاق مخلفين وراءهم حزنا بحجم القلب

يأكل في حشاكْ

الآن تجلس كاليتامى

لا يدٌ مسحت على رأس الصغير

وليس في ليل اليتامى غيرُ أنفاس الهلاكْ

من خلال تلك اللقطة الإنسانية، التي التقطها الشاعر ببراعة، نجده يتأسف على ما حدث وما يحدث من انتكاسات معششةٌ أوجاعها في القلب، ذلك القلب الذي يأكله الحزن، الحزن على فراق الطيبين، الطيبين الذين لا يمكن أبدا أن ننساهم مهما جار عليهم وعلينا الزمن بأفاعيله، فحينما يهجرك الصديق ويتولى عنك الرفيق وينساك الصاحب لأي سبب كان، ساعتها تشعر أنك اليتيم، أنك المهموم، أنك المنكسر، وأنك بلا وجهة، فلا قيمة إذن لشيء هنا أو لشيء هناك، بل لا حياة أصلا للحياة. إن الشاعرَ الحقيقيَّ طفلٌ، يحتاج إلى من يحنو عليه، ولا شك أن صوت الشاعر الطفل هنا هو رمز واسع الدلالة، فكأنما هو يتحدث بلسان حال جميع الأطفال أمثاله، الذين فقدوا الأمل، وأصبحوا بلا مأوى ولا يجدون من يمد لهم يدا حانية، يدا تنقذهم من الغرق في براثن التخلي والحرمان والحاجة وما لا تحمد عقباه.

لنافذتين..

مِنْ شمعٍ ومِنْ صَلصالْ

لأِغنيتينِ مِنْ بَوحِ امتزاجِ الحُزنِ بالموَّالْ

لِفجرٍ طلَّ مُبتَسِمًا بلا رهْبةْ!

لِطوفانٍ مِنَ الشَّهواتِ فوقَ الصَّدرِ مشتعلًا مِنَ الرَّغبةْ!

سأكتبُ ألفَ أغنيةٍ إلى التُّفَّاحْ!

وأجلسُ عندَ بابِ اللَّيلِ أشربُ بُقيةَ الأقداحْ

لعلَّ اللَّيلَ يَرحمني،

ويهديني لِنافذتينِ مِنْ أفراحْ!

هذه كلمات حبلى بالاشتياق، يود قائلها أن يعود إلى حضنه الأول، حضنه الذي يرتاح إليه، إنه لم يفقد الأمل، ولا يزال وسيظل يتشبث بالحلم، قد يكون الخطاب هنا للأنثى التي هي حاضرة بقوة في هذا الديوان وفي كل دواوين الشاعر السابقة، هذا بالطبع أمر محمود، فالمرأة هي البستان الجميل، وهي وعاء المحبة، ولا غنى للإنسان السوي عنها. الذي يتأمل شعر أشرف قاسم يلاحظ أنه لا يجرد المرأة أبدا من عفتها ولا يعريها مثلما يفعل غيره من الشعراء، هو لا ينظر إلى المرأة برغبة منحلة منفلتة أو بتلك النظرة الشهوانية الحيوانية، كلا كلا، بل نشعر بدفء حروفه ونحس بحنو سرده وبرصانة استرساله، إنه يجبر قارئه على احترامه منذ الوهلة الأولى، ومنذ القراءة الأولى، قارئ أشرف قاسم يستوعب نصوصه بسهولة ويسر، فلا يحتاج لمن يفسرها له أو يشرح له منها شيئا، لأنها كتبت بريشة فنان ماهر، يلم بمكونات النص الحديث، فاللغة عنده راقية وشفافة، ولا مجال للحشو أو التكرار، أو ترهل الجمل، أو تنافر المفردات.

لا تعجبوا إنْ خاننا الحلمُ الأخيرُ،

وخاننا الزَّمنُ الأجيرْ

لا تعجبوا إنْ صارتِ القُدسُ العروسُ كدُميةٍ..

يلهو بها الذَّنبُ الحقيرْ

فاللَّيلُ مَدَّ بساطَهُ فوقَ الرُّؤوسِ،

وماتَ فجرُ الحالمينَ على دُجى اللَّيلِ المطيرْ!

إن عين الكاميرا في هذه القصيدة تسجيلية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فالشاعر لا يسرف في التأملات أو الاستعارات أو الرموز أو ما يسميه النقاد بالتداعيات الميتافيزيقية، وكما يقول د. صلاح فضل: يلتزم بإخراج المشاهد البصرية وتحميلها مسؤولية التعبير الفني، فالصورة هي التي ينبغي أن تتكلم عنه، إنه يناشد الناس، الناس الذين لا حول لهم ولا قوة، ألا يتعجبوا من عدم تحقيق الحلم والوصول إلى الغاية، فإن وراء ذلك الإخفاق العديد من المشكلات المتداخلة والمتشعبة، بالإضافة إلى الحاشية الكبيرة، التي لا تريد للحقيقة أن تنتصر ولا للحق أن يستمر، إننا في زمن باع فيه الأخ أخاه والصديق صديقه، فما قيمة الشعارات الرنانة التي نرددها بين الفينة والأخرى، ونحن نرى القدس حزينة، مدمرة من كل حدب وصوب، حيث دنس الغزاة تاريخها ومعالمها، والشاعر يرى أن الليلَ طويلٌ، وما من ضوء ولو خافت يظهر أو يستبين في الأفق.

مدَّتْ أصابعها..

مددتُ أصابعي..

فتشابكتْ أغصانها في أضلعي،

وسرتْ بكفِّي رجفةٌ،

وسعادةٌ

منذُ افترقنا لَمْ تزلْ تمشي..

معي!

يأخذنا الشاعر إلي مناطق أخرى، وإلى منابع جديدة، يأخذنا من عالم إلى عالم، ومن جو إلى جو، ومن موقف إلى موقف، وهذا يدل على دراية وعلى تمكن، يقول القشيريُّ: «فما دام العبد في الطريق فهو صاحب التلوين، لأنه يرتقي من حال إلى حال، وينتقل من وصف إلى وصف، فإذا وصل تمكن»، ولقد تمكن أشرف قاسم لأنه وصل، وصل بقصيدته إلى عوالم أكثر رحابة وأكثر اتساعا وأكثر إنسانية، إن كثيرا من الشعراء حينما تقرأ لهم أو تستمع إلى شعرهم، تدخل في حالة من الإعياء الشديد بسبب علو الصوت الموسيقي والأوزان لديهم، أما عند أشرف قاسم فالأمر مختلف تماما، ثمة موسيقى وأوزان موجودة بالطبع، لكنها هادئة، لا تشعر معها بالإجهاد أو التعب، إن الشاعر حينما يتمكن من أدواته يصير فارسا، فتظهر سيطرته على الإيقاع، وعلى الموسيقى الداخلية للنص، عند ذلك، لا يشعر القارئ بنفور أو بخلخلة ما أو بفتور عارض في إحكام القافية. ولعل الخبرة وطول النفس الشعري وتأمل الآخرين وقراءتهم وتحليل نتاجهم بشكل جيد ومعرفة الصيغ والأبنية المغايرة والأنساق المختلفة للقصيدة العربية هو ما جعل لنصوص هذا الشاعر صوتا خاصا، وشكلا معماريا له أصالته وحيويته.

أحبُّكِ..

وجهًا يزورُ فِراشي إذا ما احتوتني ليالي الشِّتاءْ

ويفتحُ لي صدرُهُ ألفَ بابٍ لِدُنيا الزُّهورِ،

وصفْـوِ السَّماءْ

وفي آخرِ اللَّيلِ يَمضي الرِّفاقُ وأُمسي وحيدًا بغيرِ رفيقْ

تُطِلُّ عيونُكِ عبْرَ حروفي صديقًا وَدودًا يُنيرُ الطَّريقْ!

أُحبُّكِ

يا دفترَ الذكرياتِ، ويا أنَسَ الشِّعرِ، والذَّاكرةْ

ويا خنجرًا مخْمَلِيًّا ينامُ بقلبي،

ويطعنُ في الخاصرةْ!

هنا الشاعر يلتحف بأوراق الرومانسية الرقيقة الرائقة، حيث يحلق بنا في كل الآفاق التي تلامس شغاف القلب، إنه يغني سيمفونيته على مهل، فلا خوف ولا قلق ما دام أنه إلى جوار من يحب، هنا لحظة التجلي النصي، هنا الأنثى المعشوقة والعاشقة ذات التجليات المختلفة، حيث يتوحد معها الشاعر بذاته الشاعرة، إنني أظن أن أنثى أشرف قاسم ليست أنثى عادية، إنما هي أسمى من ذلك (العادي)، إنها تحرض على الانبعاث وعلى التحول وعلى التجدد وعلى إثبات الذات، إنها أنثى متصلة بالكشف بالبحث بالمعرفة بالحلم بالواقع بالحلول باللغة بالرحلة بالسؤال، هي المخلصة له ولنا من الوهم ومن الانكماش ومن العزلة التي نعانيها.

ما زلتُ أُدركُ أنَّني العُصفورُ في زمنِ المخالبْ

وبأنَّني الولَّادُ في زمني الَّذي قَدْ عاشَ يؤمنُ باللَّوالبْ!

وبأنَّني ماءُ الحياةِ

وحولهُ حامتْ طحالبْ!

في هذا المقطع ينظر أشرف قاسم إلى ذاته بإنسانية من دون تكلف أو عنجهية، نعم، فالشاعر إنسان قبل أن يكون شاعرًا، لأنه بهذه الصفة، أي صفة (الإنسانية)، يعيش ويبتكر ويفكر ويعمل وينتج وينفعل، هو ينظر إلى ذاته لأنه يؤمن بها ويعتز بها إلى أقصى درجة، ينظر إليها ليحدث التحول الأكبر والانقلاب المفروض حتى يعلو ويحلق ويكتشف. وكما يقول صلاح عبد الصبور «ونظر الإنسان إلى ذاته هو التحول الأكبر للإدراك البشري، لأنه يحيل هذا الإدراك من إدراك ساكن فاتر إلى إدراك متحرك متجاوز، ويرتقي باللغة البشرية إلى مرحلة الحوار مع النفس الذي هو أكثر درجات الحوار صدقا ونزاهة وتواصلا، إذ تصبح فيه اللغة نقية صافية خالية من سوء التفاهم وتشتت الدلالات». إن شاعرنا أشرف قاسم يدرك خصوصية صوته، ويعرف ماذا يريد من القصيدة، والذي يتأمل مسيرته، يجد كدا وكدحا ودأبا وجهدا وإخلاصا من أجل كتابة نص مغاير، وأظن أنه قد فعل هذا على بصيرة.

 

المصدر : الدستور

12 Aug, 2020 02:18:24 PM
0

لمشاركة الخبر