Skip to main content
كورونا.. وقائع يومية عابرة

ناصر الريماوي
 السنوات الكبيسة
في السنوات الكبيسة يحدث أن يموت الناس تباعاً على إشارات المرور البليدة،وبلا سبب واضح.
قبل قليل، لمحت طفلين في السيارة المجاورة، تخليا عن طبع الشيطنة ليخرجا من تحت المقعد الخلفي بساطاً أحمر، حاولا أن يحلّقا به عبر فتحة السقف المغلقة فارتطما وسقطا بميتة فورية.
الوالد المغلوب على أمره هزّ رأسه في حنق وعاد يواصل التحديق في الإشارة، ويلعن الطريق.
شاب في مقتبل العمر، صوّب قبلة حالمة، على الهواء، أطلقها نحو فتاة مشرقة، كانت تجلس إلى جواره، وحين تجاهلته بابتسامة باردة، رماها بعقب وردة حمراء فاخترقت صدرها وماتت.
رأيته وهو يستدير، ليداري ضحكة عفوية، صاخبة، غافلته على وقع الدم، ونافورته الهائلة، بعد أن رسمت أشكالا غريبة ومضحكة، على زجاج السيارة الأمامي، وأخذت تسيل بينه وبين شرطي المرور العابس.
سيارات أخرى كثيرة، متوقفة، مات ركابها، تباعاً هذا الصباح، دون أن أرى أو أعرف السبب.
حتى دون تفسير منطقي، سوى أن أغرب الميتات الغامضة ممكنة ولها أن تقع في السنوات الكبيسة.. بكل بساطة.
 صخب
أهرب بعيدا، عن صياح الجار وصخب أبنائه الشياطين الصغار، صرخت وأنا أتدحرج بين أقدامهم وأغادر المبنى، بأن رأسي ليس كرة.
تتبعني جوقة الأصوات العالية، وأنا أقود بعصبية على المنعطفات المزدحمة بحواجز الشرطة ومظلاتهم الثابتة.
يوقفني الشرطي العابس ويطلب مني بنزق خفض الأصوات العالقة في المقعد الخلفي.
أقول له بارتباك بأن الصوت لجاري، ولا شأن لي به.
إشارة المرور تغطي أذنيها في حنق وتدفن رأسها في الرمل، يا لهشاشتها المفرطة.. صاح الرصيف.
نهره الإسفلت، وراح يربت على ظهرها في حنان وعطف، قبل أن يسحب بساطه الأسود من تحت سيارتي ويهرب.
اللوحات الإعلانية تلم حروفها بسرعة هائلة عن جزيرة الشارع الوسطية، تشير نحوي في غيظ، وهي تفر عن يساري وتلحق بالطريق.
يلطم البقال جبهته العريضة وصدغيه لحظة اندفاع الضجيج نحو أرفف العرض وتساقط السلع.
أتهاوى أمامه محرجا دون تبرير مقنع.
يتلقفني بائع الورد عند بوابة حانوته المجاور، في كل مرة.
يضع عنقي بين كتفي مزهرية ويمضي بها نحو بيتي.
عند بسطة الدرج يتعثر بأصوات الصغار ويسقط رأسي من يديه.
تعود أقدام الصبية لتتقاذفه بجنون، فيما أنا أصيح مجددا في وجه جاري: رأسي ليس كرة.. ليس كرة.
 ملامح «ترامبية»
منذ أربعة شهور لم أعانق أو أصافح أحدا، لم أستقبل في بيتي سوى صديق واحد. أفتح له الباب فيعبر مكمما نحو المضافة بتباعد جسدي في الممر الضيق وتباعد ودي وجسدي في الجلسة وبثق الأحاديث المكررة.
في زيارته الأخيرة، تبسم تحت الكمامة ونعتني.. بالسيد الأمريكي، ثم ودعني ولم يعد لزيارتي.
لا أعلم لماذا ملامحي أخذت تتجرد مني وتتطاول منذ طلائع الحجر الصحي الأول، ثم تتحور إلى ما يشبه ملامح شخص آخر، وهو الرئيس «ترامب».
ربما أنا واهم، أو أن المرايا عادت إلى طبعها السمج في اجتراح الوجوه وتقليب الملامح كدعابة ثقيلة لا تحتمل.
نمت ألفة بيني وبين البقال الهندي منذ تسوقي الاضطراري الأول مطلع الجائحة، رغم أنني أجهل ملامحه وأظنه يجهل ملامحي بالمثل.
سمعته وهو يهمس لمساعده البنغالي: هذا الزبون أمريكي.
جارنا المحترف لأرجيلة «الجراك» ذات الرائحة البخورية النفاذة، والعالقة في تفاصيل المبنى، يتجنب مرافقتي إلى المصعد كلما التقينا صدفة. يتهم سجائري بالعطب التبغي، وأنه يتنشقها بوضوح في ملابسي وكمامتي وحتى ملامحي «الترامبية»، عن بعد.
العائلة بأكملها ومنذ اندلاع الجائحة وعلاقة كل فرد فيها على حدة تتوطد بشكل صاروخي مع برامج الجوال الذكية.
الهواتف الذكية من أندر النعم الإلهية في الجائحة.. بهذا أفضت لي أصغر بناتي. قالت لي ذلك وراحت تتأملني مليا، لتصيح بالبقية: (تعالوا شوفوا بابا.. صاير يشبه «ترامب».)
 أصوات وإيقاعات بصرية
ما يزال أغلبها عالقا في ذهني منذ الحارة القديمة وأزقتها وحتى يومنا هذا. الهدوء والصمت هيهات أن يعلق منهما شيء في النفس، وهذا بديهي.
صوت المزاريب وفيضانها في الليالي الماطرة وهي تقرع مصاطب الأحواش وتحفر على امتداد عطفة «الزاروب» بأرضه الطينية أخاديد متصلة وعميقة.
أذكر جيدا، كيف كنا ننام ثم نصحو على قرعها المتواصل، دون انقطاع. حتى تساؤلنا الفطري، كان رديفا، موازيا لتلك الإيقاعات العتيقة، الحنونة، ونحن نصغي لهديرها المطري الصاخب، وننظر في عيون الكبار من حولنا ونسأل: ألا تتعب تلك المزاريب؟
إيقاعات أبواب الزينكو المتباينة، والموزعة في الدروب، وعلى جانبي الأزقة، ورتمها الأزلي وهو يستدعي أصحابها في غفلة منها، عند الظهيرة، أو في أوقات العصاري وجلساتها أول الصيف.
الوقت الذي بذلناه بلا طائل في الطرق عليها والهرب، عندما كنا صغارا حتى يتقوس لوح الصفيح وسط كل باب، ويغدو انبعاجه مكرهة بصرية، ينكرها الجميع.
أصوات الجارات الحانقات وهن يلعن ذقون والدينا في لحظات الغضب العابرة، ويصفن أفعالنا بقلة الأدب وانعدام التربية.
اليوم، أشتاق لأصواتهن المتعبة بحشرجات الغضب الكوني، وغصة الحكي، وهن يفزعن تباعا في قيلولة الغفوات القصيرة، بعد أن يندلع الصدى كفرقعة، عبر تلك الأبواب الرخوة، لتصحو الواحدة منهن تلو الأخرى، ويقفن على أهبة الصياح واللعنات، كجوقة، بنصف عين على الأغلب.
كثيرا ما أفتقد لأصوات الأواني وقرعها الجنوني المتصاعد، وهي تتساقط عن الأرفف، أو وهي تنوب عن حنق الآخرين في التنفيس عنهم، عن عمد مفتعل، سواء كان هذا في بيتنا ومطبخه الصغير، أو في بيوت الآخرين من جيراننا، حينذاك.
طناجر وأطباق «الألمونيوم» الرخيصة كان لها صداها الحاد والمدوي، وهي ترتطم ببلاهة، أو وهي ترتد وتتطاير ببلاهة أكبر، كان ارتدادها مخرشا وثقيلا على حاسة السمع.
تلك الأواني، تظل على احتفاظها الطويل للصدى، حتى بعد أن يتبدد أو يضيع تماما في الفراغ.
أفتقد لصيحات الصغار المتضخمة بين دفتي الزقاق، وهي تصعد إلى رأسي لتخترق سمعي وراحتي وكل أوقاتي.
أفتقد لكل شيء..
لكل الأصوات وقرعها الصاخب حين تهب الآن في رأسي، ومن وقت لآخر، بلا مبرر فعلي، ودون حاجة ماسة للحنين، أو لتجميل صداها.
فقط أشتاقها وأحتاجها من وقت لآخر.. وهذا يكفي.

المصدر:الدستور

30 Aug, 2020 11:09:37 AM
0

لمشاركة الخبر