قراءة في «مخلفات الزوابع الأخيرة» للروائي جمال ناجي
أحمد الكواملة
رواية «مخلفات الزوابع الأخيرة» لجمال ناجي تنبثق من رؤيا بانورامية يشكل الزمان والمكان فيها المعادل الموضوعي للبطل، وبهذا فان الرواية تفارق أكثر الروايات العربية من حيث غلبه الحضور للبطل الفرد.
متغيرات اجتماعية واقتصادية سياسية
والرواية بمجملها وان كانت تنحى منحا اجتماعيا إنسانيا من حيث التركيز على المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية وأثر ذلك على التركيبة النفسية للإنسان الفرد، إلا أن ذلك لم يحل دون أن نتلمس المرجعية السياسية الغائرة في ثنايا النص، حيث أن ما وصلنا لا يشكل إلا الجزء الطافي من نص لم يكتب وان كان يهجس بها النص بشكل مباشر أو غير مباشر.
طبيعة غجرية
إن الكاتب يركز في بدايات روايته، على طبيعة الغجر من حيث شدة تمسكهم بعاداتهم والتي من أهمها التمسك بنمطية الحياة المنفتحة على الزمان المطلق والمكان المطلق.
هذا الأمر يجعلني أتساءل بإلحاح عن السبب الحقيقي والقاهر الذي دفع جماعة الغجر للاستيطان في الوادي ذلك السبب الذي أغفله الكاتب، أو جعله جزءا من نصه الذي لم يكتب.
هجرات ودلالات
وبالتأكيد فان النص لم يستطع أن يقنعني بوجاهة السبب الذي دفع (سبلو) إلى ترك القطيع والانسلاخ من تقاليده الصارمة التي تبدو غاية في التموضع من وجهة النظر الغجرية، حيث أن الشكوك بعلاقة بين زوجته «بهاج» والغجري القوي « كياز» أو فشله في
مواجهته،لا تشكل سببا مقنعا لهذا التحول الخطير.
إن الصورة التي يثبتها الكاتب لذلك الوادي شبه المهجور، ثم تصويره لتلك الهجرات الجماعية للغجر الذين استوطنوا الوادي بطريقة تبدو غير شرعية. وما طرأ على الوادي من تغيرات، وتلك العلاقة التي اتخذت شكلا ناميا وصداميا أحيانا لصالح (آل أبو بركة) كل هذا يحمل دلالات سياسية تتوافق بصورة أو أخرى مع ميكانيكية الهجرات والتغيرات الكبيرة اثر نكبة 1948م ونكسة 1967م.
الزمان.. المكان.. البطل..
أعود للتأكيد على أن الزمان والمكان هما البطل الحقيقي لهذه الرواية. والعنصر الأهم في بنية هذه البطولة يتمثل في الحركة، الزمان بحركته الشاقولية، حيث يشير أي رسم بياني لحركة الزمن، إلى توازن نسبي في البداية ثم تصاعد مستمر لصالح المعادل الموضوعي للاستغلال (آل أبو بركة) ثم يأخذ هذا التصاعد بالهبوط، يبدأ في الثلث الأخير من الرواية حيث أخذت قبضة ونفوذ (سلمان أبو بركة) بالضعف النسبي لعوامل منها وجود المنافسة
(نزار أبو خنجر) وظهور المالك (معروف المعروف) والنزعة الثورية التحريضية
(جبر أبو بركة) وكذلك اليقظة النسبية لسكان الوادي من الغجر، حيث ان حركة الزمن هذه تسير بصورة عكسية تماما لمصالح أكثر سكان الوادي، الذين يبقون طوال أحداث الرواية،الطرف الأكثر ضعفا وسلبية.
أما حركة المكان فإنها تأخذ طابعا جنونيا متسارعا، ينذر بانهيارات كبيرة أن لم تحدث الآن فإننا نستطيع أن نتلمس مقدماتها، وهي إن بدت منطقية من حيث مواكباتها لطبيعة العصر إلا أنها لم تأخذ بمنطق النمو الطبيعي للأشياء والزمن.
من هذا المنظور يتواطأ مع المكان في رفع مؤشر الرسم البياني الصاعد لصالح فئة مستغلة (آل بركة) في حين يمعن في إرهاق كواهل قاطني الوادي.
من هنا أقول أن الزمان والمكان هما البطل الحقيقي الذي تؤكد علية الرواية.في حين يغيب دور الفرد إلا بما يقتضيه النص.
لقطة بانورامية
أن اللقطة البانورامية التي حرص الكاتب على النظر من خلالها جعلته يكتفي بجزيئيات صغيرة،من مجمل الصور فيما يتعلق بالشخوص ومع حرصه على الدخول إلى بنية الفرد النفسية. إلا أن هذا الدخول كان بقدر لا يسمح بتنامي أي شخصية من الشخصيات، ومن هنا نلمس افتقار التأثير الحقيقي الذي ينبغي أن يكون، على أن هذا لا يحول دون الإحساس
العام، بسلبية أكثر شخصيات الراوية، وعدم منطقية سلوكها في بعض الأحيان
شخصية «عثمان أبو بركة « وأولاده تنتقل بصورة غير مبررة تماما من الفلاح القانع البسيط الذي يبحث عن مؤنس، إلى ذلك المستغل الباحث عن السلطة والمال والمكانة
وبعيدا عن «آل أبو بركة « فان السلبية تتبدى وبوضوح، في أكثر شخصيات الوادي «سبلو» بانتقاله إلى الوادي وإغراق نفسه في الخمر.
و(عرقي) بأنانية وسعيه للأضواء، على حساب كرامته وشرفه.
و(هاجار) وأن بدت أكثر منه ايجابية إلا أن اهتمامها الحقيقي لا يتجاوز حدود الجسد.
ولعل شخصية «كياز» تبدو أكثر شخصيات الرواية انسجاما وتوازنا مع ذاته وطبائعه،
وأن كان تأثيره محدودا للغاية، في مجمل حركة النص.
أما «نزار أبو خنجر» فهو صورة محجمة من «سلمان أبو بركة» وهما على ما بينهما من
تعارض وتقاطع في المصالح إلا أنهما يتفقان معا على صعيد واحد يقوم على استغلال سكان الوادي، مشاركة مع (معروف المعروف) مع أن خروج «جبر أبو بركة» على مصلحة أسرته وظهوره على هيئة الثوري المحرض والذي يبدو وكأنه يقف إلى جانب الكثرة المستسلمة من سكان الوادي. أن صورة جبر أبو بركة هذه، لا تستند إلى قناعات عميقة بقدر ما تستند إلى نزوات عابرة تثيرها في روحه أنوثة «هاجار» ومن رغبته الشديدة في التمييز، وكذلك ما بينه وبين أخيه «سلمان» من خلاف سلطوي وبعيدا عن وقائع وشخصيات النص «الرواية» فإننا نتلمس بوضوح تلك اللغة الروائية السردية التي يقيم الكاتب بنيانها بكل تمكن،أنها لغة غنية بدلالاتها وشاعريتها القريبة المؤثرة والتي تمتلك القدرة على التواصل مع القارئ حتى نهاية صفحاتها...
الرواية.. السرد
أن الرواية «السرد» تشكل العنصر الرئيسي في هذا النص، والسياق يشير بوضوح على تمكن الكاتب من هذا النمط الذي يعتبر على تقليديته العمود الفقري لأي نص روائي ناجح، وتنوع التقنيات الصياغية ليست مطلوبة لذاتها، وإنما لما يمكن أن تضيفه إلى النص.
على أن النص لا يخلو من بعض الترهل، الذي يظهر بعد الثلث الأول من الرواية، أنها إشكالية أكثر الروايات عربيا و»عالميا».
المصدر:الدستور