"في ساعة نحس" لماركيز تبكر في خوض السياسة المباشرة
في كل مرة يعيد فيها كاتب هذه السطور قراءة رواية "في ساعة نحس" إحدى أولى روايات غابريال غارسيا ماركيز (صدرت عام 1962)، أو يتذكرها، تخطر في باله حكاية حدثت في إحدى قرى شمال شرقي سوريا في نفس تلك الفترة تقريباً، وتطل على الرواية، ففي ذلك الحين دعانا صديق (لنطلق عليه اسم "عنتر") إلى قريته تلك للاحتفال معه بافتتاح أول استديو لتظهير الصور وبيع الكاميرات الفوتوغرافية والأفلام الخام في المنطقة كلها. ذهبنا واحتفلنا وسررنا لسرور "عنتر" ثم ودعناه وعدنا إلى بيروت. ولكن ما إن مضت ستة أشهر حتى التقيناه في بيروت. كان حزيناً يائساً سألناه هل السبب أن الأشغال لم تمش كما يجب؟. قال لا! بل إن الاستديو حقق أرباحاً واعدة. إذاً ما السبب؟ وقد قال لنا إنه اضطر إلى إقفال أبوابه والعودة للبحث عن عمل في بيروت، بعد تردد حكى لنا الحكاية، كانت الحياة تسير بأمان واطمئنان في القرية إلى درجة أن زوجة المختار تقيم علاقة مع القسيس دون أن ينتبه أحد أو يأبه!. ولكن ذات يوم، بعد افتتاح الاستديو اشترى مجموعة من الشبان المشاكسين كاميرا وأفلاماً من عند "عنتر" وتمكنوا من التقاط صور دامغة للقسيس وزوجة المختار. وانتشرت الفضيحة في القرية إلى درجة أن مجلس الأعيان فيها اجتمع واتخذ قراراً بـ.... إقفال الاستديو.
فضيحة في قرية كولومبية
ما يحدث في رواية ماركيز المبكرة لا يتماثل تماماً مع حكاية تلك الضيعة السورية، لكنه لا يبتعد كثيراً عنه. ففي رواية "في ساعة نحس" يحدث في قرية "متخيلة" في كولومبيا، حيث لم يكن ماركيز قد اخترع بعد قريته الخاصة ماكوندو، وإن كان قد بدأ يجعل من أية قرية يصورها في نصوصه نوعاً من عالم صغير يمثل العالم الكبير الذي هو كولومبيا، يحدث أن شخصاً ما أو عدة أشخاص بدأوا يعلقون على جدران الأزقة صوراً وأخباراً تكشف عديداً من الأسرار التي تتحدث عن علاقات وحكايات مخجلة قد تكون معروفة للناس بشكل أو بآخر، ولكن نادراً ما تجاوز الحديث عنها الغمز واللمز، وها هي الآن تنفضح بأسماء أصحابها وبالأدلة التي لا يمكن دحضها.
وهكذا يسود الهرج والمرج في القرية التي ينتشر العار فيها طولاً وعرضاً، ولا يعود في إمكان أحد أن يتنفس فيها وقد بات يعرف أن ثمة دائماً من يحصي عليه أنفاسه. لكن الأمور ازدادت تفاقماً حين حدث ذات يوم أن قتل أحد رجال الضيعة زوجته، إذ لم يعد يتحمل ما انكشف عن خيانتها له. وهنا أدرك مختار الضيعة أن الأمور تنذر بما هو أشد هولاً إن لم يفعل شيئاً. وهكذا يعلن حالة الطوارىء والأحكام العرفية ويبعث رجال الأمن الملحقين به، وهم في حقيقتهم مجموعة من رجال الميليشيات السابقين واللصوص الدائمين الذين يترك لهم المختار أن يعيثوا فساداً طالما أنه هو الذي سيتولى في نهاية الأمر الحكم على الأمور من منظوره.
وفيما ينطلق رجال أمن السيد المختار يحاولون "ضبط الأمور" من خلال الإمعان في التضييق على المواطنين، يسحق المختار خصومه السياسيين، لا سيما معارضيه منهم، بحجة أن الأمور يجب أن تصل إلى مستقر لها. وفي أثناء ذلك، تكون انكشافات الأسرار قد تمكنت من السكان من دون أن تلحق أي أذى بالمختار نفسه، وقد تمكن من فرض قوانينه عليهم. فبفعل "الأسرار" الفاضحة المنكشفة، ها هو كل مواطن ينظر إلى جاره أو حتى قريبه بمزيج من الشك والخوف والكراهية...
عودة إلى نيويورك أوائل القرن التالي
لعل هذا الجانب من الرواية، الجانب السيكولوجي الذي عرف ماركيز، منذ ذلك الوقت المبكر، كيف يرسمه في نص سابق على "مئة يوم من العزلة" أو "خريف البطريرك"، يبدو أقرب لأن يكون استباقاً للمناخ الحقيقي العام، الذي انخلق بعد الجريمة الإرهابية التي حدثت في نيويورك مع تدمير مبنيَي مركز التجارة العالمي، حيث انتهزت السلطات فرصة تلك الكارثة لتفرض نوعاً من حالة طوارىء بوليسية امتدت إلى أنحاء عريضة من العالم مع مخاوف متبادلة وعدم قدرة على الاعتراض. الحقيقة هنا هي أن ماركيز قبل أربعين سنة من حدوث تلك الجريمة الإرهابية صور الحالة السيكولوجية المعممة التي نتجت عنها، كما صور بكل وضوح وقوة الكيفية التي جرى بها استغلال السلطات تلك الحالة العامة.
طبعاً لم تكن لـ"في ساعة نحس" قوة روايات ماركيز التالية، ولا المكر الذي لجأ إليه لتصوير العلاقات حتى في رواياته الأقل شأناً من "مئة عام من العزلة" أو "الحب في زمن الكوليرا" أو حتى "الجنرال في متاهته"، لكنه بذلك القدر من المباشرة السياسية التي يبدو أنه "أفرط في استخدامها" في تلك الرواية المبكرة، صور اسكتشات مسبقة للتوجهات السياسية التي ستطبع معظم نصوصه المقبلة. والحقيقة أن "في ساعة نحس" تبدو من خلال هذا المنظور، الأكثر تسيّسا من بين روايات هذا الكاتب، الذي سيعتاد على أن تكون السياسة جزءاً مكوناً، ولكن على طريقة "القطبة المخفية" في أعماله التالية، فسمح لنفسه هنا بأن يدنو من السياسة بشكل مباشر، وذلك في وقت لم تكن السياسة على الموضة إلى ذلك الحد في أدب أميركا اللاتينية، الذي لن يلبث أن يصبح واحداً من كبار أقطابه بعد سنوات. ولئن كان في الإمكان هنا أيضاً الحديث عن بعد أخلاقي، فإن هذا البعد إنما هو هنا لخدمة السياسي الذي أتى واقعياً إلى درجة سيكون من شأننا أن نقول إن هذه الرواية، لو كُتبت، بعد الجريمة النيويوركية لكان علينا أن نعتبرها عملاً وصّف فيه ماركيز ما حدث بالفعل ولو من طريق الترميز.
ميزة الأعمال الصغرى
مهما يكن، من الواضح أن هذا البعد السياسي الذي أتى مبكراً في المسار الكتابي لصاحب "مئة عام من العزلة"، شكل عاملاً سلبياً بالنسبة إلى ذلك المسار وجعل الرواية تكاد تكون منسية لزمن طويل، بل إن ترجمتها إلى لغات عدة ومنها الإنجليزية والفرنسية، تأخرت كثيراً عن ترجمة أعمال أخرى لماركيز أقل منها شأناً. فهذه الرواية ليست من طينة تلك الروايات التي تتمكن من دفع مبدعها إلى واجهة الأحداث الثقافية والإبداعية لا في العالم ولا محلياً حتى. ولكن لنقل في المقابل، على أية حال إنها من تلك الروايات التي غالباً ما تُكتشف لاحقاً، أي بعد أن تكون أعمال بالغة الأهمية لمبدعها قد ظهرت وحققت له مجداً كبيراً، سواء كان محلياً أو عالمياً، لكنها حين تُكتشف، بمثل ذلك التأخر وتُقرأ على ضوء نجاحات الكاتب اللاحقة لظهورها، تحدث لها معجزة صغيرة إذ تبدو بشكل لاحق أكثر قدرة على تفسير أعمال الكاتب ورسم صورة لجذورها من أية أعمال أخرى له. فهل نضيف هنا أن "في ساعة نحس" هي بعد كل شيء واحدة من تلك الكتابات التي اعتاد الكتاب الكبار إصدارها في مرحلة لاحقة من مسارهم الروائي، وربما فقط لتريحهم من عناء تفسير أعمالهم للباحثين، إذ ينظرون إليها وكأنها إجابة عن أسئلة تشتغل في أذهان هؤلاء.
نطرح هذا السؤال وتخطر في بالنا على سبيل المقارنة، مثلاً، رواية متأخرة لنجيب محفوظ الذي كثيراً ما تحلو لنا مقارنته بماركيز على غير صعيد، هي "قشتمر" التي قد لا تكون رواية محفوظية كبيرة، لكنها بالتأكيد واحدة من روايات كاتبنا العربي الكبير، التي تتضمن إجابات عديدة عن أسئلة تشغل بال الباحثين، ويبدو واضحاً أن محفوظ إنما كتبها كي تعفيه من عناء تقديم تلك الإجابات التي يتطلعون إليها. أما الفارق الوحيد فيكمن في أن "قشتمر" رواية متأخرة جداً في العالم المحفوظي، بينما نعرف أن "في ساعة نحس" رواية مبكرة جداً في العالم الماركيزي.
المصدر:اندبندنت عربية