المسيرة ذهابا وإيابا
ينهض مفزوعاً صارخاً. زوجته تنير الحجرة وتربّت على كتفه لتهدّئه. كابوس. تُناوله كوب مياه. يعتدل ويشرب نصفه، تأخذ منه الكوب. ينظر حوله. يطمئنّ أنه في حجرته. بجواره صفّ الكتب. ينظر إلى زوجته التي تبتسم له ابتسامة طمأنة وتشجيع فيحكي الكابوس...
- شبح غامض والبرودة صنعت حوله هالة ثلجية خفيفة. الشبح ينظر إليّ نظرات حادّة آمرة. يمدّ يده بسيف قصير ويطلب منّي بدون كلام أن أتناول السيف منه. أتناوله. الشبح وهالة الثلج تهتزّ حوله. يشير لي أن أدخل الغابة لآخرها، فأدخل الغابة المنيرة بشعاع الغروب الدامي. أسير عارياً تماماً، حافي القدمين، خائفاً، وجسدي يتصبّب عرقاً. من يميني يظهر نابليون بملبسه العسكري وقبّعته بالغة الضخامة. نابليون فرِح مغرور بمكانته، ممتطياً حصانه، مشرفاً على موقع القتال.. موقعة حربية دموية مهولة ينتصر فيها، ثم أسرع على حصانه إلى مكان آخر... انتصاره في موقعه ثانية... ثالثة... ثم نابليون تحت تمثال أبو الهول يقف مزهوّّاً بنفسه، وقد تضخّمت قبّعته حتى صارت بحجم التمثال. ومضة ثم نابليون في الغابة وشفطة هواء قوية تصعد به ليختفي بين أغصان الأشجار المهولة.
جسدي يرتعد وأنا أشاهد هاملت يسير أمامي جيئة وذهاباً. ينظر إليَّ متأفّفاً ثم يختفي بعدما تكالبت عليه الأشجار ومحقته. أسير خطوات مرتجفة وأنا أتمعّن هنا وهناك. أرتعب وقد ضربتني أصوات خبطات بيانو عنيفة. بيتهوفن يجلس على بيانو ويعزف السيمفونية التاسعة. الانتصار. يستدير وهو جالس على كرسيه ويشير لي لأبتعد. أبتعد وضربات البيانو تطاردني، وكلّما أسرعتُ أصطدم أكثر بالأشجار وأغصانها التي تتدلّى لأسفل وهي ترتعش مع اللحن المرعب، وكلّ ضربة بيانو هائلة أتلقّى ضربة موجعة من غصن. أقع أرضاً وأقوم سانداً على سيفي القصير، فإذا بمن ينتصبون أمامي؟ هتلر وموسوليني وزعيم عربي برأسين، والرأسان تحيط بهما سحابة ثقيلة تخفي ملامحهما! ثم رئيس كوريا الشمالية الذي أفشلُ في كلّ مرّة في أن أستوعب اسمه. ينسحبون إلى الخلف بظهورهم وهم يقفون في أماكنهم، ثم إذا بكلٍّ منهم يقف على قمّة صخرة عالية، وينهمك في إلقاء خطبة عصماء على جماهير محتشدة عارية لا تحمل سيوفاً، لكنها ساخنةٌ تفحّ صهداً، وكل لحظة بصقة هواء قوية تضربهم من أعلى فتسحق بعضاً منهم سحقاً، لكنهم جميعاً مستمرّون في الصياح والتلويح التشجيعي والعرق يتصبّب منهم. وأنا أتابع متعجّباً، فإذا بالزعماء ينظرون ناحيتي في قرف ويشيرون لجماهيرهم عليّ، تندفع الجماهير ناحيتي لتلتهمني فأهرب داخلاً الغابة وأنا أصرخ مرعوباً.
مرغريت تاتشر تخطب في البرلمان البريطاني. أقتربُ منها. شفتاها مغريتان، لكن عينيها عينا قرش هجم عليَّ فاغراً فاه المرعب! أقع على ظهري فتُشير لي باحتقار لأنصرف. متاهات الغابة. مارلين مونرو بجمالها تجلس على غصن واطئ فأركّز عينيَّ على فخذيها العاريتين. تقفز وتقترب منّي، وفي كلّ خطوة تخلع قطعة من ملابسها، وقبل أن تخلع القطعة الأخيرة السفلية، أكون قد ولّيتُ هارباً بين الأشجار.
أتعب فأجلس بجوار ديستوفسكي وهو يحاور راسكولينكوف الذي يبكي بحسرة. رأسي يتقدّم للأمام لمشاهدة راسكولينكوف بوضوح. يلمحني ديستوفسكي فيصرخ في راسكولينكوف. فيقوم هذا حاملاً خنجراً ليهجم عليّ، أهرب رغم أنني أحمل سيفاً. أجري وأجري وأجري وأنا أصرخ وأصرخ وأصرخ. أقع على تاتشر العجوز المريضة وعيناها قد فقدتا كل شيء وصارتا فارغتين، ولعابها ينزف من فمها، ويصنع بحيرة صغيرة لزجة حولها، أُصاب بالقرف فأقوم لأواصل الهرب. حافة الغابة.
أُلقي بالسيف بعيداً فينظر لي الشبح الثلجي مهدّداً. أهمله باكياً ويتحوّل البكاء إلى صراخ وأنا أتابع موسوليني المشنوق على غصن شجرة، أنظر لأسفل هتلر ملقى أرضاً ورأسه منقسم قسمين وبينهما مسدّس. أُبعد ناظري.. رئيس كوريا الذي لا أتذكّر اسمه، عارٍ عابس ممدّد في صندوق ورقي. يهبط الزعيم العربي برأسيه المختفيين خلف كتلتين من الطين ويصير الرأسان ثلاثة. جلس في تواضع ووقار على مصطبة دمويةِ الحمرة. اليدان تطولان تطولان تطولان حتى تصلا قرب الأرض... تنساب منهما دماء تسيل في طبق صغير كلّما امتلأ بالدماء يتّسع ليحتوي المزيد حتى يصير حوض استحمام كبيرا ممتلئا بها.
أهرب لأخرج من الغابة والشبح الثلجي يطاردني ممسكاً بالسيف ليعطيني إياه.
حافة الغابة. أقف لاهثاً وأمامي مساحة مفتوحة ذات تراب أحمر. السماء فوقها صفراء. أسير متأفّفاً من الحرارة والعرق ساخن ساخن ساخن. تأتي مارلين من بعيد عارية لتحضنني فأفتح ذراعيّ، فإذا بالشبح الثلجي يضع في يمناي السيف! أحاول الصراخ... لا لا لا.
* كاتب من مصر
المصدر: العربي الجديد