منى المصدر لأنني أخشى الذاكرة ديوان جديد
صدر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع- الأردن ديوان «لأنني أخشى الذاكرة»، للشاعرة الفلسطينية منى المصدر، وجاء الديوان في 132 صفحة وهو من القطع المتوسط.
منى المصدر شاعرة فلسطينية من غزة، يدرك القارئ وللوهلة الأولى ما أن يبدأ في التورط في مجاهيلها، أنه في حضرة نص متجاوز، نص قادر على احتلال مكانته باقتدار، فمنى من الأصوات التي تنعجن بمفردتها حد التوالد، فهي تتمثل تلك المقولة للمتميز حسين البرغوثي والتي تبنتها كمدخل لنصها، «أنا لا أكتب الجميل أنا أكتب الذي لا ينسى» وسيدرك القارئ أن لا أدعاء هنا بل بحث حقيقي عن عجن للمفردات واستيلاد للدلالة التي لا حدود لها.
نص منى المصدر نص ذو جملة حادة فيها من الوضوح قدر ما فيها من الاستتار، فهي لا تفتش عن ابهار القارئ قدر ما تفتش عن كيفية استيلاد الأسئلة والرؤى وخلخلة الساكن في الآخر المتلقي بحدة جراح وبثبات عارف.
وثم ما لا يقال في جملة منى، تلك الطفلة، المرأة، التي تقشر جلد الضحية عنها وتندس في ثوب الجندي، لتقول ما لم تكتبه الرصاصة، قبيل رحيله:
«لكلّ الأشياءِ التي كُسِّرتْ بداخلي
لكلّ الأوجاعِ التي لا تكفي مدفأةً للشتاءِ
لكلّ فكرةٍ أجهضتْها العتمةُ
لكلّ هذا الخواءِ والبكاءِ
لكلّ ضحكةٍ تحرَّرتْ من فِي الوقتِ
لكلّ موجةٍ عانقتْ انعكاسَ الشمسِ
لكلّ الأشياءِ التي الْتأمَتْ بداخلي
لكلي وكلِّ كلّي»
هكذا كتبَ جنديٌّ قبلَ أن تبحرَ روحُهُ
قائلاً: هكذا نقشتْ الحياةُ قلبي!
ولا تنسيها كونية الجملة وامتداد مساحاتها المتفجرة أن تستحضر خاصها الذي جعل قلبها/ قلب غزة/ قلب الإنسان قلبًا خارج التصورات الاعتيادية، لآن اغتصاب اعتيادية الحياة لن تمنحك القدرة على ان تكون مجرد إنسان يعد إيامه، ويركن إلى قلبه النابض بالحياة، ففي غزة وحينما تعيشك البساطير وصوت القنابل والقتل ليس لك إلا أن تكون:
«قلب ممزق بين أسلاك الكهرباء
تقطنه مقبرة لا يصحو نائموها
طَرْقُ النعال يُخيف الكلاب
فتهرولُ في رحم المسافة
تهتزُّ أشباح الخطى
فتنتفض المسافة هذيانًا
بأنّها آخر الناجين
من زلزالٍ كادَ يودي
بقلبها المرصوف!
الرمضاء تخون نفسها
مع فتيل الليل
وتُطْعِمُ قلبها المسمومَ لأبناء آوى
فيموتون من الشوق!
خذلان الغيمِ في الشتاء
يصطفُّ على طابور الإغاثة
ممسكًا صحنًا من أرق
وملعقَةً من كوابيس
يغرف بها جوع الخيام
عامود الإنارة اقتصّ ظلّي دومًا
فأصبح جشعًا للجنازات وللتيه
يحدّق بي طفلٌ يحتضن جبيرة في يده
فيهمس لي بأنَّ كلَّ هذا هو خدعة
ساحرٌ ضرير
أحبَّ أن يكون له قلب بلا تنهيدة
فشهدَ الفجيعة!».
وتستمر منى في اصطياد الدلالات المقلوبة للأشياء، فلا الحلم حلم ولا الشمس تطلع في الفجر لتخبز خبزها وتسرح جدائل الحقول، فالحرب والاحتلال يجعلان لكل شيء معنى نقيض:
الشمس
قلوبنا الملتهبة
حين تنام
يأكلنا الليل بنَهَم
****
الأساطيرُ
فزّاعات أحلامنا
وقبعاتٌ من السهو
****
الحربُ
هي جثث الجشع
وبكاءُ الوريد
الشوقُ
علّة القلبِ
ولقاحُ الروح
****
الحلم
ضحكاتُ القلبِ الخفيَّةُ
إصرارُ أمٍّ على إنكار الفقد
****
اليقينُ
أن تولج قلبَك في مقتل
ثمّ تحلّل ذلك لتصبحَ أكثرَ قوّة
اليقينُ سخف كهذا
****
الدموعُ
رسائلُ الجسدِ المسرَّبَةِ
****
الحبُّ
أنْ تزيِّنَ جراحَك بنبضة
وتحتوي هشاشَةَ الآخر كلَّها
****
التأمّل
أن تفكّ رموز الحياةِ والناس
أو تحاولَ أن تكونَ أنت
في غابة من النُسخ
****
العَينُ
التي رأت هذا كلَّه
لا تزال تنامُ على وضعية الجنين
حين تكتئِب!».
ويستمر النص/ النصوص بالتوالد، لتقول منى أن فلسطين/ غزة/ منى، لا يشبهن إلا أناهن الواقفة مثل عنقاء السؤال، تواجه كل المحال الذي يغير لديها حتى معنى الوداع ودلالته، ليصبح مزحة بين الرصاصات، تقول:
«الوداع
كان مزحة بين الرصاصات
حتى أصابتك فأصبح حدادًا
لا تكفي الأيادي لاحتوائه
الركام الذي بُني به بيتنا
مات إثرَ صاروخِ العمّ توم
دون أن يعطيَ الذكرياتِ
جوازَ سَفَرٍ جديد!
الشظيَّة التي أصابتْ رأسي
لم تكنْ مخطئَةً
كانت تستهدف عقلي!
الجدرانُ التي حَمَتْ أخي
من انهيارِ البيت
ماتت لارتجاجٍ في الأسس!
شجراتُ اللوز الثلاثُ
التي زرعها جدّي قبل النكبة
ابتلعتها الأرض
كي لا تبتر القذائفُ سيقانَها!
الكوخُ الذي تَوَسَّطَ بستانَ الجارِ البعيد
كان بريئًا مِن دمِ عُثمان
ومِن صَرخاتنا كلّها.
الشقوق التي تَرُدُّ عليّ التحيةَ كُلّ صباحٍ
كانت نوافذنا إثر حَظْرِ تَجَولٍ أصاب المخيم!
الشهيد، ودعته يوم الجمعة
حين كنت أسمع لمارسيل
وهو يغني
«يطير الحمام يحط الحمام»
لم تمهلني الرصاصاتُ
أن أحتضن قلبَ حبيبي
حين قتلته على الحاجز
كنتُ أنزف دمًا
أرفضُ الوداعَ الذي يسكنُني الآنَ
وأتلو معَه صلواتي الأخيرةَ في الحبّ».
المصدر:الدستور